Atwasat

أوكرانيا .. النار فوق الثلوج

سالم الكبتي الثلاثاء 22 فبراير 2022, 09:24 مساء
سالم الكبتي

يكتم العالم أنفاسه ولم يستردها بعد .
خوف وقلق وترقب للمجهول . هلع كبير من أن يفعل الكرملين فعلته ويدخل أوكرانيا المجاورة. أيام الأتحاد السوفييتي الذي ولى كانت قطعة منه وظل ذلك الأتحاد الممتد على إتساع لايحد يوصف بالدب القابع على الدوام وسط غابات الثلوج الكثيفة .
في إكتوبر 1956 دخلت دباباته إلى بودابست وفي سبتمبر 1968 أعاد الكسندر دوبتشيك إلى بيت الطاعة في بلاد كانت تسمى تشيكو سلوفاكيا .. وبينهما أزمة الصواريخ .. هناك في كوبا عند خليج الخنازير شتاء 1962 . دائما كان الدب يتحرك ويتململ في أغلب الأوقات عبر الشتاء . يصاب العالم بالخوف والمزيد من الصقيع .

الأقوياء يتصارعون .. يحشدون والصغار يدفعون مبالغ باهضة من الهلع والدمار . ثم إذا إندلعت المواجهات المريرة فأن الخرائب والشوارع الميتة تلوح واضحة بعد الحرب . وهذه الأيام أوكرانيا تتصدر أنباء المراسلين والشاشات والأذاعات . أخبار وصور . والنيران فوق الثلوج . الخطوط الحمراء تقترب عند حافة نقاط البياض .

كانت أوكرانيا أول جمهوريات الأتحاد السوفييتي تقع على البحر الأسود وتقترب من رومانيا وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وكانت حقول القمح العظيمة تشكل أهميتها الأقتصادية حتى على مستوى العالم إضافة إلى عدد سكانها . ذاقت الويلات في الحرب العالمية الثانية وفقدت مليونا من البشر وعانت الكثير من التخريب . صاحبة تجربة قاسية في الحروب والأزمات والصراع الذي يتوقف ثم يفتح فمه من جديد . وإضافة إلى القمح والفودكا كانت تفخر برجل بدين وثقيل الوزن لكنه خفيف الظل هو نيكيتا خروشوف . عاصر القيصر ولينين وستالين والحروب وقاد المقاومة في أوكرانيا التي ولد فيها عام 1894 وتولى لاحقا رئاسة وزرائها ثم حث الخطى إلى الكرملين وقاد روسيا كلها في الحرب الباردة . المواجهة مع الغرب وأمريكا والخلاف العقائدي مع الصين وخلع حذاءه ذات يوم في الأمم المتحدة عام 1959 وخبط به منبر الخطابة أمام العالم بأسره . رجل يمتلئ بالفودكا والنكات . والمستحيل . أزاح تراث ستالين وبيريا ثم أعفي من منصبه في إكتوبر 1964 . في مايو من ذلك العام كان يتأهب للسفر إلى مصر بحرا عبر الدردنيل والبسفور للمشاركة في إحتفالات السد العالي وقبل أن يغادر حضر إليه لتوديعه الرفيق شيلست سكرتير الحزب الشيوعي في أوكرانيا وقال له :سافر بكل إطمئنان . كل شئ في أوكرانيا كما تريد . إنتاج القمح والذرة يتضاعفان . وظل الرفيق يكرر المزيد من الأرقام والبيانات . لم يصبر الفلاح الأوكراني خرشوف وقال له ..أيها الرفيق هل تظنني ذاهبا إلى غير عودة .. تذكر أنني سأعود !

والصراع دائما يعلو هناك عند الحافة في الشتاء . ويكاد يبلغ الحافة .. النهاية . أنه صراع الكبار فيما يظل الصغار يكتمون أنفاسهم ويتفرجون . ماذا لو يسدد أحدهما للأخر ضربة مميتة . ماذا يحدث بعد ذلك على رأي الأسكندر الأكبر . لديهما كل الوسائل التي تقتل بلا هوادة ودون أخلاق . لديهما مع كل هذا الثقل النووي بدرجة متقاربة أو متفاوتة لكنها في جميع الأاحوال يملكانها . الولايات المتحدة فعلتها عام 1945 فوق اليابان والسوفييت دخلوا النادي الذري في سبتمبر 1949 .

والعالم الأن يكتم أنفاسه ويقارب على البول في فراشه في كل الأوقات . الأمم المتحدة والغرب وأمريكا . التصريحات والخطب النارية . وأوكرانيا تستعد للحرب . تستيقظ على التدريب على السلاح . تسمع وعود أمريكا والغرب بالمقاطعة والعقوبات لبوتين الذي يعترف بأنفصال جمهوريتين عن أوكرانيا. والأنفصال دائما يماثل البتر الذي جروحه تنزف . الأنفصال تتبعه شرور لاتنتهي. ولا يعجب بوتين أيضا أن تكون أوكرانيا القريبة منه عضوا في حلف الناتو . لم يعد حلف وارسو باقيا منذ زمن . وأوروبا ترتجف من الصقيع وكورونا وتنتظر التناطح الذي يقترب . البيت الأبيض يصرح . الأساطيل تتحرك . الكرملين بقبابه وجدرانه الرمادية وسط الثلوج وقرب ضريح لنين يصرح ولايتوقف . المصالح والنفوذ والصراع الأبدي منذ يالتا .. منذ الحرب الثانية . أوروبا مع القطبين سابقا ولاحقا في كل الأحوال لاتملك شيئا . إنها فقط تميل حيث تميل الريح .. مثل طفل فقد لعبته تراقب وتصرخ والدبلوماسية تنهض وتختفي . كان ثمة إعتقاد بأن الروس بعد غورباتشوف عام 1991 وإنهيار إتحادهم سوف لن يعودوا كما كانوا .. أيام التهديد بالسلاح الذري والتجسس بالأقمار الصناعية وكل الخوارق .

والأن ليس هناك خروشوف أو كندي أو جونسون أو كوسيجن . الأن عالم أخر قد ينهار في أية لحظة . ويزحف الموت من كل مكان وتحترق حقول القمح في السهوب وتضيع زجاجات الفودكا وخبيرات التدليك !

فماذا لو كان التهديد الذي يجري .. يتم بأتجاه الشعوب الصغيرة التي لاسند لها . ماذا كان سيحدث لو ظل الأمر يتعلق بشعوب متخلفة وفقيرة تتهم بالأرهاب والأستبداد والفساد والرشاوى والسرقات . الشعوب التي لاتملك أحيانا ثمن رغيف الخبز ويتساقط الحجر مع القنابل فوق رؤوس أطفالها عندما يتفق الكبار عليها . شعوب لاتملك الأرادة ولاحقول القمح وغرف التدليك . شعوب يستبد بها الألم فتفزع مستجدية الكبار للتدخل وتصير أرضها حقل تجارب للأسلحة والصواريخ وكل شئ قاتل .

لو كان الأمر كذلك فأن التدخل الأهوج يتحقق بدون إستئذان . يختلف الكبار في مناطق النفوذ لكنهم يتفقون على المصالح . الشعوب الصغيرة ليست كبيرة ولاتملك الأرادة . بايدن قال بأن الحرب لو وقعت في أوكرانيا فأن الكلفة البشرية ستكون باهضة الثمن .

أجل . إنها هناك كذلك ياسيادة الرئيس . تقولها بكل حزن . ولكنها تظل رخيصة وبخسة الثمن في فلسطين وفيتنام وإفغانستان وسوريا والسودان واليمن .. وكل المناطق التي تعيش خلف أسوار الرماد .

صحيح ياسيادة الرئيس أنكم تبدون أكثر إنسانية عندما يتعلق الأمر بكم.. بمواطنيكم وحلفائكم وتشفقون عليهم .. أما الأخرون البؤساء في أوكرانيا وبقية العالم فليس في وارد إنسانيتكم الرفيعة أنت والقيصر بوتين في ذلك الكرملين . إن صراعكم هناك صدى لصوت بعيد أخر ستدفع ثمنه الشعوب المقهورة المتخلفة . وقد يكون مقدمة لتقسيم المزيد من العالم قطعة قطعة . خطة يبدو أنها تحبك ومستمرة في الأعداد . وستنتهي الأزمة مثل فقاعة صابون .. بعد أن يكتم العالم كله المزيد من الأنفاس .

فمن سيشرب الأنخاب بعد ذلك فوق مائدة اللعبة المملة المليئة بالقمار ؟!