Atwasat

عزفُ ذات اللحن القديم

نور الدين السيد الثلثي الأحد 18 يوليو 2021, 09:53 صباحا
نور الدين السيد الثلثي

أنتج الاقتصادُ الرَّيْعيُّ في ليبيا عاهاتٍ وتشوّهاتٍ اجتماعيةً ترسّخت بمرور الزمن. اتّجه المواطن صوْب الدولة لتوفير المرتب والعلاج والتعليم والدعمِ لسكنه وقُوته ودوائه. انفتحت أبواب الأموال والأرزاق من دون حاجةٍ لعلمٍ أو مهارةٍ أو عناء، وما عاد لدى المواطن حَرَجٌ في الحصول على "حقّه" في المال العام عن أيّ طريق. تدنّت قِيـَمُ العمل والتعلُّم وخَبَتْ روحُ العمل والمثابَرة والمبادَرة والتنافس. تغيّرت قواعدُ السلوك وغابت المحاسبة، وتفشَّى الفساد. لم يعد التحسينُ والتطويرُ، أو تحقيقُ المصلحة العامة، شاغلاً يتركز حوله الجهد دون غيره.

في دولة الاقتصاد الرّيعي يصبح بين يديْ السلطة - أيّاً كان المُمسِكُ بها - ثروةٌ لا تتأثّر بأداء الاقتصاد الوطنيّ وتنافسيّتِه أو إنتاجيّةِ العاملين فيه. وفي غياب المساءلة والمحاسبة، يتحوّل الحاكم إلى مالكٍ مانحٍ مانعٍ ومشروعِ استبدادٍ مطلَق يوظّف مواردَ الدولة لإدامةِ سلطانه؛ وكان الأمر كذلك.

نتج عن الاقتصاد الريعي تضخّمُ المؤسسات العامة وتدنّي كفاءتها، وانحسارُ دورِ قطاعٍ خاصٍّ منتِجٍ فاعل، وتدهوُرٌ في منظومة قِـيَم المجتمع. تنازَلَ الليبيون، عملياً، عن حقّهم في محاسبة الحاكمِ المتصرِّفِ في ثروتهم، مقابلَ الأمنِ تحت سلطته، والوظائفِ في حكومته وأجهزتها وشركاتها، والتعليمِ والرعايةِ الصحية المجانية - كيفما كانت رداءتُها - والدعمِ والعطايا.

أصاب العلاقة بين الدولة والمواطن اختلالٌ كبير. طَغَت سلطة الدولة، وخَفَتَ صوتُ المواطن خارج دائرة المطالب النفعية من تعيينٍ ودعمٍ وقروضٍ وإيفادٍ. انقلبت الأدوار المفترَضة، فأصبح خادمُ الشعب حاكمَه المطلق، والمواطنُ السيدُ موظفاً عنده، غايته تعظيمُ ما يحصل عليه من إيرادات الدولة لا لشيءٍ سوى أنه مواطن.

دولة الاقتصاد الريعي تلك لا تزال قائمةً، رغم سقوط النظام وحلول الهيمنة الأجنبية وتَوالِي الانتخابات والمجالس والحكومات. لم يظهر أيّ توجّهٍ لإقامة اقتصادٍ وطنيٍّ إنتاجي خدميٍّ معرفيٍّ، يوفّر البنية التحتية والتشريعات المحفّزةَ لدوران عجلة الاقتصاد ونموِّ كياناتٍ اقتصاديةٍ مُنتِجةٍ، يمارس المواطن في إطارها العملَ التنافسي الشريف منتِجاً ومبدِعاً، سيّداً كريماً، مساهِماً في بناء وطنه ورُقيّه.

على العكس من ذلك، الدولةُ الريعية اليوم حيّةً تتمتّع بكامل لِياقتها، وتلعب ذات الدور القديم في خدمة الممسكين بالسلطة، يستعملونها لإطالة بقائهم قدر ما يستطيعون رغم اختلاف الظروف والمعطيات. رحل المتصرِّف الواحد ليحلّ محلّه متصرّفون يتنازعون حصصاً من السلطة، ومن الرّيْعِ بيتِ قصيدِهم. معيَّنون من الخارج ومنتخبون شعبياً يتبادلون المصالح والمكرُمات، يشترون الولاءات، يُغدقون المال من أجل السلطة والبقاء فيها، يمنحونه لفئاتٍ من الناس وجِهاتٍ من جغرافيةِ الوطن حسبما تمليه المصلحة، ويمنعونه عمّن لا يخشوْنهم ولا يرجون منهم شيئاً.

التغيير الكبير سيحدث يوم تُنبذ منظومة الاقتصاد الريعي إطاراً لما يسمّى توزيعَ الثروة، الذي هو في الممارسة بابٌ واسعٌ للفساد وهدرِ المالِ وتثبيطِ الهِمم. نهوض البلاد مما هي فيه رهنٌ بإقامة منظومة اقتصادية إنتاجية بديلة، تُبنى على العمل والعلم والإبداع والتنافس، تُحقّق الرفاهية لكلّ الناس ولكلٍّ بمقدارِ جهده وفكره. عند ذلك سيختفي الحاكم المتصرِّفُ في ثروة الوطن لحسابه، ويكون المواطن سيّداً على أرضه، والحاكمُ خادماً لشعبه.

إلى أن يحين ذلك الوقت، سيظلّ العزف مستمراً على ذات اللحن القديم.