Atwasat

(ديستوبيا) ليست ليبية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 31 مايو 2021, 11:29 صباحا
محمد عقيلة العمامي

"ديستوبيا (Dystopia)" كلمة إنجليزية من أصل يوناني تعنى المكان الخبيث، وهي عكس معنى كلمة "يوتوبيا Utopia" التي تعني المكان الفاضل، وفي الحالتين المقصود هو وصف لمجتمع مدينة سواء أكانت فاضلة أو خبيثة. ولقد ظهرت قصص عن مثل هذه المجتمعات في العديد من الأعمال الخيالية.

قد تكون رواية "مالم تسمعه الجبال" هي آخر أعمال الروائي الراحل الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه، فلقد جاء نجله الخلوق إلى مكتب الأستاذ رئيس تحرير بوابة وصحيفة الوسط، ومعه نسخ منها، مبينا أنه لم يكن يعلم بها إلاّ بعد صدورها. والحقيقة أنا أيضا لم أعلم بها من قبل، على الرغم من متابعتي لمعظم رواياته.

وسواء اتفقنا مع الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه في أفكاره، أو لم نتفق، فهو يظل بحق روائيا قديرا، متمكنا من أدواته، له قدرة فائقة في الوصف ونسج الأحداث، وتوظيفها بمهارة يشهد لها حتى منتقدوه.

الرواية تكاملت في حوالي 200 صفحة، ولقد شدتني وأتممتها في يومين، مثلما يحدث لي مع أي عمل جيد الإعداد، خصوصا وأنه- رحمه الله- تناول موضوعا غاية في الخطورة وهو توحش الآلة الرأسمالية الغربية، التي بدأت خيوط وشذرات من هنا وهناك توحي ارتباط بعض مؤسساتها بالمافيا العالمية، وبدأ الإعلام الغربي نفسه يرددها ويرى أنها ترى، ليعم الرخاء، أنه يتعين العمل على الحد من الانفجار السكاني بأية وسائل متاحة!

إنه من البديهي أن ينتقي الروائي مكانا، وزمنا لأحداث روايته، وفقا لما يراه، وفوق ذلك يوظف كل ما يراه مناسبا لإقناع المتلقي بأحداثها، ومكان وأجواء روايته. وكاتبنا اعترف بانخراطه في سياق ثورة17 فبراير، واعترف أيضا بخيباته بسبب تشويهها وانحرافها! ولذلك عاد إلى الوراء، إلى نظام سبتمبر وما حفل به زمانه، مثلما قال: "من فترات شد وجذب وتوتر واسترخاء وتأزم وانفراج .. ". ليلتقط زمنا ومكانا لأحداثها!
في البداية ما أود تأكيده، هو أنني لست مدافعا لا عن سبتمبر، ولا عن ثورة فبراير، وإن كنت قد تهورت في بدايتها، وأعلنت أنه على نظام القذافي أن يرحل!
والسبب بسيط جدا، وهو أنني لم أكن "ثوريا" أبدا، لأنني مثلما وضحت مرارا من قبل: أن ظروفي العائلية كانت تمنعني تماما من أية مغامرة، تضيع بسببها أسرتي الفقيرة، كثيرة العدد، جراء هذا القرار، حتى إنني اتخذت مما قاله الراحل صادق النيهوم مبدأ لعلاقتي بثورة سبتمبر، خصوصا بعدما أعلنت عن نظامها بوضوح وصرامة، في خطاب زواره سنة 15 أبريل 1973 ثم استدعيت ما حدث في السنوات اللاحقة خلال هذا الشهر.

صادق النيهوم قال: "نحن الأرانب لا نأكل أحدًا ولا نحب أن يأكلنا أحد". ومازلت أرى أنه أساس لقرار سليم لمن يعول ستة أطفال وجدة مريضة، وشيخين أحدهما بصير والثانية استئصلت نصف معدتها، ويسكن بالإيجار!
ولماذا أقول لكم ذلك، لأنني لا أعتقد أن التقاط زمن ومكان أحداث الرواية في طرابلس في عهد نظام سبتمبر له صلة بأحداثها، لأنه لم يحدث، في زمن القذافي، أبدا الاتجار بالأيدي العاملة التي تنوي الهجرة غير الشرعية، ولم نسمع بهذا الاتهام الذي وجهته مؤسسات العالم المدنية إلاّ في عهد حكومة الوفاق، بعد ثورة فبراير وترجمنا ونشرنا الكثير مما قيل عنه.

كان المفترض ألاّ يقحم نظام سبتمبر في هذا الرواية، الجيدة والمفيدة، التي يبدو أنه استقى أفكارها من حقائق بدأت تتسرب، لا تختلف كثيرا عما تناوله الروائي الكبير في سرده لها، لأن الرواية وسيلة من وسائل التوثيق تظل مرجعا للأجيال، حتى إن لم يقصد كاتبها ذلك. ولا ينبغي أن يمر خلفاء الله في الأرض على ما قد يُحَرف، ويسئ ليس للقذافي فقط ولكن لجيل عاش أربعين عاما وتولى في عهده، مناصب قيادية، ومشهود لكثيرين منهم بالنزاهة والوطنية، والتدين الحقيقي، وبالتالي لا يقبلون أن يحدث مثلما تقول الرواية ويصمتون.
في تقديري، وباعتبار أن الروائي أكد من البداية أنها رواية خيالية، كان عليه أن يجعل مكانها خياليا، حتى لا يلصق موضوعها المشين، ويسئ لجيل كامل من الليبيين عاشوا في ليبيا من سبتمبر 1969 حتى فبراير2011، كثيرون منهم كانوا ومازالوا نماذج شريفة مشرفة للغاية.