Atwasat

صور تبقى.. أمثلة تعيش

سالم الكبتي الأربعاء 19 مايو 2021, 12:21 مساء
سالم الكبتي

(أفاضل الناس أغراض لدى الزمن)
المتنبي

خطواته مثل أبناء جيله بدأت من هناك.

من العصامية والكفاح الذاتي والاجتهاد ومواجهة الظروف. لم تكن توجد ملاعق من ذهب، لكن من خشب في كل بيت، إن وجدت في الأصل. بنغازي وما حولها من ضواح وأماكن بعد الحرب وعودة سكانها من الجلاء. كانت عائلة القلال في جردينة مع غيرها من العوائل والأسر. والظروف.. ظروف ما بعد الحرب تغطي الجميع وتتكفل باللازم من المتاعب والأزمات. لا إمكانات. لامساعدات. البلاد مقصوصة الأجنحة بالكامل. وثمة حلم بشمس جديدة.. بنهار آخر. بأيام مبهجات ينهض كل صباح عبر الأفق البعيد.

ومن هناك.. من هذه الظروف. من العصامية والإصرار والعناد النبيل. كان الالتحاق بالعمل في إحدى الحرف البسيطة وهو الصبي اليافع. كان ذلك في الريمي حيث المعسكر مع الإنجليز. ومواصلة الدراسة في نفس الوقت في مدرسة البركة القريبة ثم في مدارس العمال. رواد أخذوا بيد الجيل المتعب والمرهق وعبروا به الضفاف.

والظروف.. ظروف ما بعد الحرب وبقايا آثارها ورماد أدخنتها وألغامها.. لكن الحلم يكبر ويتسع لدى أحمد القلال وجيله المكافح والمعاند في نبل إنساني ووطني. لامكيفات. لا أجهزة. لا مواصلات. العمل منذ الصباح الباكر في اجتهاد وحماس وبنفس القدر التعلم ليلا على يد الرواد.. محمد العالم حويو وشقيقه. ومحمود مبارك الشريف ومصطفى الطياش وعرابي العنيزي والصادق باله ومحمد السعداوية وحامد الشويهدي.. وغيرهم من الرجال الرواد الذين أخذوا بأيدي هذا الجيل وسط الدروب ولم يتركوها ترتعش أمام الريح.

يلتقي القلال أيضا في ذلك الزمن عبر نفس الحلم والتطلع إلى الشمس.. إلى اليوم البعيد مع زملائه: سعيد الشاعري ونوري رحومة وسالم قنيبر وحسين السيد الشريف.. وغيرهم. وتتحقق بعض الأحلام الصغيرة. ليست كلها. ليست جميعها. ترحل الإدارة ويعلن الاستقلال. وتمضي الحياة. ثم بعض هذه المجموعة المباركة من الجيل تتولى التدريس أيضا في هذه المدارس الليلية تطوعا بالطبع في صورة من الوطنية والجلال.. هل تعرف الأجيال المعاصرة معنى ذلك الآن وقيمته؟.. الآن حيث الإمكانات والوسائل وكل المغريات.. وكل شيء ما عدا شيء اسمه الانتماء ونكران الذات. هل تعرف تلك الأجيال معنى الانتماء والتضحية؟!

وتنضم أسماء أخرى إلى المشوار الطويل: فتحي بن شتوان ومحمد الثني وحسين السيد.. وكثيرون. صورة ثانية وبديعة للحلم الذي يكبر. للتعاون. للتضحية. للعطاء الحقيقي في ظروف ملتوية من العقبات بعض الأحيان إن لم تكن أكثرها. مجتمع صغير يمضي نحو النور. يواجه العثرات. ينهض ويمضي نحو النور بالتوكل على الله والأخذ بالأسباب ومواجهة الظروف. ظروف ما بعد الحرب. والمعاناة. والصبر. وفي تجربة الأيام تجد أحمد القلال معلما في مدرسة سيدي حسين بمبناها القديم في العلوة وغيرها من مدارس يرتدي لباسه الليبي المميز بين زملائه المعلمين. وضمن طاقم إدارة نادي الأهلي. وكل الأعمال الخيرية والإنسانية والنهوض بالوطن والمواطن. ومن التدريس وتعليم الصغار الحرف النبيل.

يتجه إلى المكتبات المضيئة طوال الوقت. فهي علم آخر وعطاء بالثقافة والفكر. يدير المكتبة العامة في بنغازي. مع زميله الذي سبقه في هذا الشأن طاهر الشويهدي وجبريل العبيدي. وغيرهما. عطاء يتواصل بالمعرفة. ويواصل في اللحظة نفسها والتجربة المستمرة دراسته الليلية ثم يتخرج من الجامعة. كلية الآداب. قسم التاريخ العام 1965. ويعد البرامج الإذاعية بصوت المذيع فرج الشريف. ويكتب المقالات وينشرها. ولايغيب عن المحاضرات والندوات والأنشطة الثقافية. ولا يفارق أصدقاءه.. يستمرون في الحلم.

يظل جزء منهم ومن صورة المدينة المشرقة في التعايش وعلاقات الود والاحترام والنهوض بالناس وخدمتهم دون فرق. ويواصل أيضا التجربة والتعلم في أصول المهنة.. المكتبات وعلومها. ينال الماجستير في التخصص من الولايات المتحدة ويعود ليدير مكتبة الجامعة الليبية مع زملائه العاملين. المكتبة التي كانت عنوانا من عناوين الجامعة وأيامها الزاهرة.

يجمع نوادر مخطوطات الوطن ووثائقه وتاريخه ويخشى عليها معهم الضياع والطمس والإهمال. ويطورون أقسامها وخدمتها للطلاب الذين يفترض أن يكونوا صناع المستقبل وقادة الرأي والفكر على امتداد الوطن. فأين المكتبة الآن ورسالتها في الجامعة والمجتمع؟

والتجربة والعطاء يتواصلان عند أحمد القلال وجيله. يقدمون بلا توقف الأمثلة في التضحية والإيثار وبذل الجهود. اقتربت منه كثيرا. رافقته في العديد من الأنشطة والبرامج من خلال لجنة جمع التراث الشعبي بالجامعة ولجنة تسمية الشوارع والميادين في مدينة بنغازي. كانت هناك مواقف عديدة صمدنا فيها ضد تغيير معالم المدينة وتسمياتها السابقة. ومناشط أخرى كثيرة في المدينة وخارجها. تنوع العطاء ولم يتوقف إلا بالرحيل الذي يطال كل البشر ولا راد له. قضاء الله في عباده.

والبشر يختلفون. ويتنوعون. المصالح والأنانية والأطماع والتكالب على التفاهات تظل سمة للغالبية. غير أن أحمد القلال في حياته وفي رحيله شيء آخر يختلف تماما. عطاؤه يظل يغمر الأبعاد في كل الأوقات ويعطي الدروس العظيمة.. لمن لا يفهمون تلك الدروس.. ويظلون يكررون أنفسهم أمام الآخرين ويثرثرون عن بطولاتهم وخوارقهم الكاذبة. ولا يدركون أن القلال وجيله في صور عطائهم لم يكونوا كذلك على الإطلاق. ولم تتمكن منهم عوامل الروح الخبيثة واللئيمة مثلما فعلت، وأطاحت بأشباه الرجال من النماذج السيئة التي تشوه وجه الوطن. الصور الرائعة تسقط تحتها المشاهد القبيحة على طول الزمان.