Atwasat

هراجاكو.. واغتيال الفرحة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 26 أكتوبر 2020, 12:48 مساء
محمد عقيلة العمامي

عندما قرر صديقي أن يسافر إلى اليابان بحثا عن الحرير من أجل صنعته، وعندما اقترح أن اسافر معه كنت قد تخرجت، ولم أجد نفسي في الوظيفة، فتركتها وأخذت أبحث عن مجال يتفق وتطلعاتي. انطلقنا مأخوذين بخطوط الطيران السنغافوري، الذي أعلن في النصف الأول من السبعينيات أنها أفضل شركات الطيران في العالم. وكان مما قدمته لنا مضيفة الطيران أصابع محمرة من (لحم) لذيذ للغاية جعلني أطلب منه صحنا ثانيا، واعتقدت أنه لحم طير، فجاءت لنا بصحنين، وبعدما أبديت لها إعجابي ومتعتي بمذاقه سألتها عنه فقالت: "إنه نوع مميز من الثعابين! " فترك رفيقي صحنه في الحال!

كانت الرحلة تشمل عواصم آسيوية عديدة في الذهاب والعودة، جعلنا الذهاب لا يتعدى المطارات أما العودة فقد انتقينا لها عواصم عديدة اشتهرت بالحياة الصاخبة، وإن كان صخب آسيا متنوعا درجة الدهشة. وصلنا طوكيو منهكين، وعندما صحوت من بعد ظهر اليوم التالي، وفي طريقي نحو الحمام، وجدت صحيفة أخبار باللغة اليابانية، وكان بصفحتها الأولى صورة للملك فيصل، وأيضا محمد على كلاي مسجي على أرض حلبة الملاكمة. قلت لرفيقي يبدو أن الملك فيصل توفاه الله وأن محمد على كلاي سقط بالقاضية. وكان هذا ما حدث بالفعل! وعدت الآن إلى العم جوجل، وسألته عن وفاة الملك عبد العزيز آل سعود، فوجدت أنه اغتيل يوم 26/3/1975.

التاريخ توافق تماما مع الحال في ليبيا، فحتى تلك السنة كان رجال الأعمال في قمة نشاطهم ونجاحاتهم، فتجارها، وخصوصا رجال أعمال ثورة سبتمبر كانوا قد حققوا ثروات تماما مثلما حقق تجارها المتمرسون من مشاريع إنمائية وفرا مجزيا، وكانت الأمور والحركة التجارية والصناعية مزدهرة بدرجة كبيرة، ولكنها توقفت تماما بعد قيام سلطة الجماهيرية سنة 1977، والزحف على المصانع والشركات، ومحلات البقالة! وبدأ التململ ولحق التجار ورجال الأعمال بالمعارضين، ولم يعد الحال مثلما كان قبل هذا التاريخ.

ذلك اليوم قضيناه بالفندق الفخم الذي لم أر مثله في حياتي، ففي بهوه سفينة كاملة! كلها مطاعم لكل أطباق العالم وحانات وصالونات. أما مفتاح الغرفة لا يرجع للاستقبال، إلاّ وقت المغادرة، لأن رقم حجرتنا كان في خانة الألف الثاني! قضينا اليوم بطوله في الفنادق، وفي المساء عرفنا أن هناك مكانا شبابيا صاخبا - كنا حينها شبابا- فلقد أفادنا موظف الاستقبال عندما سألناه أين نقضي مساءنا ؟ فخيرنا ما بين مشاهدة مصارعة السومو، حيث نشاهد "كتلتي" لحم وشحم، يزن كل منهما حوالي 200 كيلوجرام يلتحمان في صراع عجيب، أو نتجول في مركز( ياسو) التجاري أو نحجز مقعدين في مسرح ( كابوكيزا) الفخم، فقاطعناه :".. Dance & Girls فصاح: "أوووه.. (هاراجوكو)" فأجبناه: "أيوووه.." وكانت (الهرجة) هي أفضل ما يوصف به ذلك الشارع الطويل الصاخب. لا أحد فيه سوى شباب وصراخ ورقص على موسيقي بمختلف أنغامها وصخبها.

ولكن هذه المدينة التي تعد ثاني أكبر تجمع سكاني في العالم، والتي يقطنها حوالي 40 مليون نسمة، والتي تنتشر فيها أعداد كبيرة من الأوركسترا والمسارح والمتاحف والمكتبات لم نر منها شيئا سوى أسواقها وفتيات (الجيشا) بأثوابهن التقليدية، وكأنهن دميات ملونة.

لقد وصلنا طوكيو منهكين، وظللنا تائهين، وخرجنا منها من دون أن نرى شيئا، فلقد ذهبنا إلى غرفة التجارة اليابانية وسألناهم عن الحرير، فأخبرونا صراحة انهم يستوردونه من تايلاند، ووضحوا لنا أنهم يصنعون ما يضاهيه ملمسا وشكلا! وغادرنا طوكيو.

دخلناها جوعانين وخرجنا منها ولم نر منها شيئا يذكر، لأننا ببساطة لم نفكر أبدا أن نبحث عما نريد، وأن نطلع ونقرأ عن هذا البلد الذي نهض من الرماد ليصبح أقوى اقتصاد في العالم، ومن يشكك في ذلك فليتأمل أعداد السيارات رباعيات الدفع، التي تعلن عنها تلفزيونات ليبيا وسوريا والعراق، وموريتانيا والصحراء الغربية، وهي تجوب أراضينا بمدافعها وأسفلها اسم المنتج بالبنط المجسم العريض، أسفل المدافع مباشرة!

من تلك الرحلة تعلمت شيئا واحدا وهو ألاّ أنطلق إلى أي مكان من دون أن أقرأ كل ما يتوفر عنه من معلومات، وإلاّ ما كانت سهرتنا تلك الليلة تنفض في ثوان بمجرد أن سخر صديقي من سيدة تدخن غليونا غريب الشكل، وقال: "أكيد حشيش!". وما أن سمع ضيوفنا كلمة حشيش، حتى انطلقوا من حولنا كشرر، فالحشيش جريمة لا تغتفر! وظل أقرب زبون في ذلك المكان يبعد عنا أمتارا، وكأننا موبؤون! لم نكن نعرف أن اليابان هي البلد الوحيد الذي لا يعاني مطلقا من الإدمان، بسبب محاربتهم الشرسة له.

في رحلتي الثانية قرأت عنها الكثير، وإن كانت مقالة للكاتب والمؤرخ الأمريكي (جيمس ميتشنر) الذي توفي سنة 1997، عنوانها: زي السيدة الفراشة العجيب- ويقصد به الكيمونو الياباني- والذي سبق وأن كتبت عنه لطرافته، ولأنني وجدت وكأنه يتحدث عن المرأة الليبية، ولو أننا غيرنا العنوان، ليصبح: زي السيدة المثقلة بالذهب- وأقصد به زي الرداء الليبي و(فترينة الذهب ) - لقلنا أنه يتحدث عن سيدات ليبيا في حفلات الزفاف! بالطبع (ميتشنر) لا يتحدث عن نساء اليابان الآن، ولكنني قارنت بينهما خلال منتصف القرن الماضي، فثمة أمور لها جذور تاريخية، وهي أيضا متشابهة.

دعوني أنقل أليكم مقتطفات من مقالة (زي الفراشة): "كانت الفتاة اليابانية تربي لتكون خادمة للرجل، ولقد حرمها القانون من حق التعاقد مع الغير، وليس لديها حق الانتخاب، ولا يحق لها حضور الاجتماعات العامة، ولا الالتحاق بأية جمعية نسائية بل كان يحظر عليها سماع خطاب سياسي، ولا يحق لها قبول أي منصب شرفي من دون موافقة كتابية من زوجها! فالزوجة تُعد منذ طفولتها لتنفيذ مهمة واحدة تنحصر في: إسعاد زوجها وإنجاب أكبر عدد من الأطفال. ولا يجوز لها أن تتطلق من زوجها حتى لو تزوج بغيرها، أما الزوج فيطلق متى يشاء ولأي أسباب مهما كانت تافهة، ويحتفظ بأولاده! وإذا مات زوجها فلا تتملك شيئا مما ترك. أما لفظ (أرملة) فمعناه عندهم المرأة التي على وشك الموت". كل ذلك قيل عن الأم اليابانية، ولكنهم لم يذكروا أن يشطب اسمها من شهادة نجاح أحد من أطفالها!

الرجل مازال يقاوم الحرية التي نالتها المرأة في اليابان لأنه لا توجد حرية للمرأة إلاّ في المدن الرئيسة. وذكر أيضا، أن زوجين عاشا زمنا في أمريكا، ثم عادا إلى اليابان، فضل الرجل أن ينام على الأرض مثلما تقضى العادات اليابانية، أما المرأة فقد فضلت الاستمرار في النوم على السرير. زارتها والدة الزوج، وشاهدت السرير، فسألتها: "لمن هذا السرير؟" فأجابتها أنه لها، فصرخت في وجهها :"أخرجي هذا السرير. لن تنام فتاة ما أعلى من ابني!" لا أحد، حتى كتابة هذا المقال، يعرف يقينا هل السرير أخرج بالفعل، أم أنه مازال في المنزل!؟.

ومازال الكثير عن تلك الرحلة، وسوف أتناوله في حينه. فهذا المقال مجرد شكر فقط، للرجل الياباني لأنه لم يحرم الأم من فرحتها بنجاح طفلها مثلما فعل شعب الله العجيب.