Atwasat

الطغاة الصغار البهلوانيون

سالم العوكلي الثلاثاء 16 يوليو 2019, 12:54 مساء
سالم العوكلي

في محاضرة أُقيمت في درنة، بداية انتفاضة فبراير، أقامها اثنان من المعارضين العائدين من المنفى، قال أحدهما بالحرف الواحد: "طيلة 40 عاما، ليبيا لم يكن بها شيء، بها القذافي فقط" انفعلت ورفعت يدي وداخلت قائلاً: إذا كانت ليبيا طيلة 40 عاما ليس فيها سوى القذافي فهو جدير بما فعله وأنتم بهذا الوصف تؤلهونه أكثر مما فعل إعلامه. وتحدثت عن المجتمع الليبي وما فيه وعمن دفعوا ثمن مقاومته في الداخل وعما أنجزه الوطنيون في شتى المجالات. 

ودائما يرعبني هذا التعميم وهذا الحكم العدمي على المراحل التاريخية، ويرعبني اختزال التاريخ في شخص أو أشخاص، أو في ظاهرة أو في وجهة نظر تغفل الحياة الاجتماعية وهي تقاوم تغول السلطة السياسية بآليات دفاعية مختلفة. 

من التعميم المخل أيضا أن نربط كل ما حدث للمجتمع الليبي ودولته؛ خلال أربعة عقود، بالقذافي فقط، متناسين الاختلالات البنيوية في المجتمع، وبالتالي الطرق المتوخاة لمعالجة هذه الاختلالات أو القيم السائدة المضادة لفكرة التقدم أو الطاردة لمبدأ التنمية والتنافسية والتي تشكل مركبا أساسيا في تكوين الذهنية الاجتماعية الغالبة التي عززتها ثروة نفطية هائلة حولت الليبيين ــ إلا القلة الناجية ــ إلى طوابير متسولين أمام المصارف ينتظرون ما تجود به عليهم الخزانة العامة.

ومن التعميم المخل أيضا أن نختزل هذه المرحلة في نظام القذافي وننسى كل وجوه المقاومة التي تصدت لهذا المشروع بكيفيات مختلفة، ننسى الوطنيين الذين عملوا من أجل ليبيا فقط. 

منذ فترة طويلة ونحن لا نجد فرصا لتحسين أوضاعنا، أو حل أزماتنا المالية، إلا عبر صفقات تديرها الدولة، تُحوِّل الناس إلى كتل من الزحام أمام الإدارات المختلفة أو المصارف للحصول على صفقة، بدل أن يكون في مجالات تنموية؛ كمشاريع صغرى؛ أو حقول زراعية؛ أو مصانع؛ أو حِرَف؛ لحل مشاكلهم المالية كما كان يحدث قبل انبلاج الثروة النفطية وتحويلها إلى مرتبات يتقاضاها الغالبية دون حتى أن يقدموا عملا بالمقابل، ما أحال الدولة إلى مؤسسة ضمان اجتماعي كبرى، والخزانة العامة إلى صندوق هبات ومساعدات.

كان المواطن الليبي يضطر إلى حراثة الأرض؛ أو تربية الماشية؛ أو إنشاء مشروع خدمي أو حرفي أو صناعي؛ ليتحصل على مبلغ من المال يحل أزماته، ومع الوقت أصبح سوق العملة والمتاجرة بها هي الفرصة الوحيدة المتاحة لحصوله على مبلغ مالي، كما حصل في العقود الماضية عبر تصريف العملة على جوازات السفر وبيعها فورا، أو عبر الاعتمادات المستندية وبيعها كعملة بدل جلب البضائع أو المنتجات المتعلقة بها، وكما يحدث الآن في سوق (الفيزا) حيث يتحصل كل فرد من الأسرة على عملة صعبة تباع لتجار العملة في السوق السوداء، وكل هذه الهبات التي يرشو بها المسؤولون الرعية أبعدت الناس عن حس المبادرة أو المشاركة، ليتزاحموا أمام شبابيك المصارف ويحصلوا في النهاية على مبالغ مالية دون أن يقدموا خدمة أو إنتاجا مقابل هذه الصفقة. 

يأتي كل ذلك تحت بند المُسكنات أو الرشى التي تتم فيها المقايضة بين السلطة والمواطن، كي يستكين المواطن لإدمان المخدر الذي يجعله مطيعا لن يوفره له، وتستمر السلطة في تمكنها من حاجات الناس وتحويلهم إلى مواطنة سلبية كثيرة المطالبات، بدل مواطنة إيجابية تسهم في دخل الدولة وبالتالي تسهم في صنع سياساتها حين يتحول الأفراد من أرصفة التسول إلى قوة دافعي الضرائب.

أدت هذه العلاقة المريضة بين المجتمع ومسؤوليه إلى أزمة، مازلنا نعانيها، تتعلق بمفهوم الانتماء للوطن الذي لا يتحقق إلا بحقوق المواطنة والعدالة في توزيع الفرص، فيعبر الكثيرون صراحة عن كراهيتهم لهذا الوطن وكيل الشتائم له دون أن يستطيعوا إخفاء الحب الكامن في داخلهم له. فهم يكرهون المناخ العام المسيطر عليه، ويكرهون احتقار الدولة لهم وفقدانهم لأبسط حقوقهم، وفي قلب خليط من الحب والكراهية تتولد هذه العلاقة المرتبكة مع الوطن، وكل يعبر بطريقته، من ينخرط في لعبة الفساد، أو من يذهب إلى المنفى، أو من يمارس سلبيته فاقدا الثقة في كل شيء. والجميع في هذه الحالة يتغنى بالوطنية وحب الوطن دون أن يحدد أو يفهم ما تعنيه هذه العبارات أو المفردات المكررة بشكل طقسي، ودون أن يطرح السؤال الأهم: ما هو؛ أو كيف هو الوطن الذي من المفترض أن نحبه؟ وكيف نعبر عن حبنا له؟.

بعد عقود من هيمنة النظم الفاشية ارتبكت العلاقة بين المواطنين وأوطانهم، أو بمعنى آخر تم توطيد ما يمكن تسميته بحب من طرف واحد؛ على المواطن الصالح أن يحب وطنه حتى وإن كان هذا الوطن لا يبادله الحب. وفي الحقيقة لم يكن ثمة وطن بالمفهوم الاجتماعي الحديث، ولم يكن ثمة مواطن بالمفهوم الحقوقي الإنساني، وكل ما هنالك جغرافيا تحدها حدود في محميات بشرية معترف بها في منظمة الأمم المتحدة أصبح فيها مفهوم الوطن مختزلا في السلطة وما يحيط بها من حاشية ومستفيدين، وأصبح فيها المواطن طرفا مشكوكا في انتمائه إذا لم يكن مطيعا لهذه السلطة، ونتج عن هذه العلاقة المَرَضية اختلالات سيكولوجية بالمعنى الكلينيكي، حيث على السلطة أن تكون سادية وهي تجلد شعبها بذريعة توفير الأمن له، وعلى المواطنين أن يكونوا مازوخيين وهم يتغنون بوطن يُعذبون فيه يومياً.

عن هذه العلاقة المختلة برز شعار (الوطنية) الغائم ليصبح السوط الذي يسلطه المستفيدون من هذه العلاقة المرضية على كل صاحب رأي معارض للسلطة، والمتهم مسبقا بعدم الوطنية طالما هو ينتقد نظاما اختزل الوطن فيه، فكل صاحب رأي مخالف هو خائن أو عميل أو رجعي أو متآمر على الوطن، لتكتظ السجون بسجناء الرأي، ولتكتظ وسائل الإعلام بالأناشيد التي تتغنى بالحاكم باعتباره حامي حمى الوطن من أشباح لا يراها إلا هو والمقربون منه. ورغم سقوط الأنظمة السياسية التي أسست لهذه العلاقة المَرَضية، إلا أن الورثة؛ الذين من المفترض أن يكونوا جاءوا وفق آلية الانتخابات الديمقراطية وإرادة الناخبين، مازالوا يحافظون على هذا الوسواس التاريخي الذي يقسم المعادلة السياسية بين سلطة يتمثل فيها الوطن وأية معارضة هي ضد الوطن، وليست ضمن اختلافات مع السلطة الحاكمة التي انتخبها الشعب.

من أكثر المظاهر الدالة على اختلال العلاقة بين الوطن ومواطنيه، ما شاع في العقود الأخيرة من حكم النظام السابق، من كراهية معلنة لعلم الدولة ونشيدها الوطني، ووصلت هذه الكراهية حتى لمنتخبها الوطني الذي أصبح لعبة دعائية يتحكم فيها أبناء القذافي وأجهزة المخابرات، وهذه الرموز الثلاثة هي التي تجعل المواطنين في الدول التي تحترمهم تسيل دموعهم حبا وورعا كلما رُفع علم دولتهم أو عُزِف نشيدها الوطني، أو فاز منتخبهم الوطني لكرة القدم، وحين انتفض الناس ضد هذا النظام كان أول ما فعلوه، وبشكل تلقائي، استعادة علم الاستقلال ونشيده الوطني في محاولة لتجديد العلاقة مع هذه الرموز الوجدانية ومع الوطن، غير أن الخيبة التي ألمت بالناس بعد أن سرق الثورةَ وأحلامها طغاةٌ جدد تافهون مثل سابقيهم، أربك العلاقة من جديد مع هذه الرموز التي ما عادت تثير الشجون كما كانت فترة الحراك. هؤلاء الطغاة، السابقون واللاحقون، الذين لا يرقون حتى إلى مفهوم الطغاة التاريخي؛ تصفهم الروائية عالية ممدوح في روايتها "الأجنبية" بــ "حشود الطغاة الصغار العاديين البهلوانيين لا يتسمون بخصوصيات وخصال وقامات الطغاة الحقيقيين. لا يتمتعون بقوة السحر اللغوي أو النطق الفصيح أو الكاريزما الماكرة ولا الجنون الحقيقي. طغاتنا أقل من الخزي وأدنى من العار ولا يجوز لنا أن نفقد أعصابنا ونحن ننوي التخلص منهم.".