Atwasat

عن القصابين والكلاب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 ديسمبر 2018, 03:42 مساء
محمد عقيلة العمامي

الكلب الكبير ينبح.. وتحاكيه بقية الجراءِ، لعلها تتعلم النبح، أو تقلد الكبار. لابد أن أمهم تلك الكلبة الغبراء، والأرجح أن أباهم هو ذلك الكلب الأبلق ذو العينين الحمراوين. الجراءُ الخمسة بُلق! وتنبح كلها إن نبح أحدهما. الكلاب تكاثرت عند مفترق الطرق الممتدة أمام نقطة الشرطة. لا أحد يعلم، على وجه التحديد، إن كانت الكلاب محتمية بالشرطة، أو أن الشرطة محتمية بها.. ولكنها تكاثرت عن السنوات الماضية.. وتنبح كلما اقتربت كلاب أخرى من حيزها الذي تحدده، على عادة الكلبيات، ببولها. 

عجوز صامته تتحرك وكأنها رسم متحرك، تصل غالبا، قبيل مغرب كل يوم إلى ساحة (الفيلا) القديمة التي تركت منذ العام الماضي، من بعد أن هدّت (الفيلا) القديمة المقابلة لمحل المواد الغذائية. العجوز تأتي بكيس بواقي أكل وعظام، تلتف حولها الكلاب ولا تنبح لأنها اعتادت أن الكمية تكفي الجميع. 

القصاب ملتصق بنقطة الشرطة. كان صاحبه رجلا صامتا طوال الوقت يتحرك وكأنه نسمة، ثم رحل منذ سنوات وترك ابنتين توليتا ادارة المحل، ثم رحلت إحداهما، وبقيت الأخرى التي يبدو أنها تريد مواكبة العصر، فلقد أضافت شواية أمام المحل تقدم قطع الحواوشي المعدة ببواقي الصالح مما يستقطع من إعداد طلبات زبائنها، فهو لحمة وطنية على أية حال، فتغمر المكان روائح تفتح الشهية لأولئك الذين يتناولون وجبات الفول والطعمية، طوال الأسبوع، من مطعم ابو السباع القريب من الشواية.

قبيل عيد الأضحى بأيام، يَنْصب القصاب، سرادق أمام المحل، ويسيجه، وتعد حوامل لعلف أغنام أغلبها أكباش صغيرة، فيما يحرسها شباب طوال الليل والنهار. 

وارتفع تكبير المساجد؛ إنه عيد الأضحى، وخيل لي أن ثغاء الخراف يعلو، ولكن الكلاب البالغة صامته ولا ينبح منها إلاّ الجراءُ. وانقضت صلاة العيد. واتجهتُ نحو بائعة الخبز، ولكنني لم أجدها في مكانها المعتاد، واصلت نحو فرن شارع الحجاز، وعدت بالعيش البلدي الساخن. 

مررت بسراداق الخراف، وفيما كان الصبية يوثقون قوائمها، أخذ جزران يشحذان سكاكينهما. واصلت، مبتعدا بسبب عدائي للنحر، فلا أذكر سوى مرات قليلة في طفولتي شاهدت اغتيال هذه الحيوانات المسالمة، ولا أذكر أبدا أنني أشرفت على هذا العمل، لا في صباي ولا في كهولتي. 

عندما مررت بعد الظهر على السرادق، كان الذباحون يواصلون السلخ، والتقطيع. وكانت كلاب المنطقة متراصة فوق الرصيف المقابل للقصاب. لم يكن المقهى الذي انتقيت واحدة من مناضده بعيدا عن القصابين والكلاب، التي انتبهت انها مستكينة في مكانها، وإن اثنين أو ثلاثة منها تتحرك عند المسارب التي تقود نحو القصاب. كانت وكأنها تحرس المنطقة من أية كلاب متطفلة. كان صبية القصاب، ينظفون مساحة الذبح ويلتقطون بواقي وقطع الذبح والسلخ ويرمونها أمام الكلاب، التي يتحلق بعضها حول الوليمة، فيما تقعي أخرى أو مستلقية، مستكفية، فيما تلهو الجراءُ مبتهجة بالعيد ورائحة اللحم. 

"الغريزة هي التي تتحكم في السلوك الحيواني" يقولون أنه من الخطأ أن نقرر أن الحيوان أسوأ أو أفضل من الإنسان، صحيح أن تجارب كثيرة ودراسات أثبتت نبل الكلب مثلا، ولكن هناك عالم أثبت أن الكلب منافق وكذاب و "ملاطعي" أيضا. عالم الطبيعة (كونراد لورنز) قال أن كلبه كان يهرع لاستقباله ما إن يقترب من بيته، ويقوم بالسلوك نفسه عندما يقترب معارفة الذين يزورونه. لكن كلبه، بعدما هرم، اقترب لورانز، ذات يوم، قادما عكس اتجاه الريح هرع نحوه الكلب غاضبا مثلما يفعل مع الأجانب، وعندما اقترب منه وعرفه، ارتبك قليلا ولكنه تعداه مواصلا النباح وكأنه يحذر كلبا آخر في الجوار.. وتأكد العالم أن كلبه يكذب، لأن لم يكن هناك كلبٌ!

ثبت عبر عدد من الملاحظات كيف أن الكلاب تهاجم كل دخيل على منطقتها، أما إن هاجمته أنثى عصبية، في أوج دروتها - مثلا ـ أو أنها مرضع، فإن كبرياءه تمنعه من الهرب، فيظل في مكانه يرفع قدما بعد أخرى وكأنها علامة على اعتذاره، وأنه لا يؤذيها أو ينبح في وجهها. وأكد أيضا أن صراع الذئاب على رئاسة القطيع، الذي يبلغ حد الاقتتال ينتهي عندما يقوم المهزوم عاجزا، لاويا رقبته معرضها لأنياب الذئب الآخر وتلك إشارة استسلام فيتركه المنتصر في حاله. 

أما سلوك الحب عند الطيور أورده (إدوارد آرمسترونج) في كتابه (كيف تعيش الطيور) يوضح غريزة الخطبة وهي فترة تعارف بين الطيور قبل أن تتزاوج، وبيّن أيضا أن الذكور تتقرب إلى إناثها بهدايا وغالبا من الزهور، وتعتني بإناثها أثناء رُقادها على البيض فالنورس يلتقط قوقعة أو ما شابهها ويضعها أمام رفيقته في أدب بالغ. 

غير أن السلوك الطبقي في خم الدجاج يذكرنا بنماذج نراها في حياتنا اليومية، فالدجاج ذو الهيبة والمكانة والثقة في النفس، حتى وإن كان لصا، ينقر من أقل منه، لا لشيء إلاّ لإثبات أنه الأقوى والأعلى مكانة، ولكن وحده الديك من ينقر كل من في الخم!.

ولعل أظرف التجارب هي تلك التي تابع فيها (آرمسترونج) اهتمام الغراب بالحلوى، وكيف أنه يلتقطها ويذهب بها إلى أنثاه متقربا إليها ويضعها أمامها كهدية!ولقد تعمدت، ذات يوم رمي حبات فول سوداني إلى غراب فأكلها، وبعدما رميت إليه (كرميلا) التقطها وطار بها!! وتذكرت صديقا كان لا يعود إلى بيته من دون قطعة واحدة من شكولاته معينة، وأنا أعلم أن لدية كتيبة من الأطفال، قال لي ضاحكا: "العيال مهمة أمهم.. اما هذه القطعة فهي لها فهي تحب هذا النوع وتترقبه كل ليلة!".