Atwasat

وصية الكيخيا!

حمدي الحسيني الأربعاء 19 سبتمبر 2018, 10:14 صباحا
حمدي الحسيني

مهما مرت السنون ومهما مضى قطار الزمن، فهناك قضايا لا يطويها النسيان ولا تسقط بالتقادم، خاصة تلك المصحوبة بالغدر والخيانة، مثل قضية خطف وتصفية داعية حقوق الإنسان، الراحل منصور الكيخيا، التي تعد واحدة من أهم القضايا غير القابلة للنسيان، لكنها تظل ملفًا مفتوحًا تتبادله الأجيال ليس في وطنه (ليبيا) فحسب، بل في مختلف أنحاء الوطن العربي، وربما العالم أيضًا باعتباره رمزًا من رموز الدفاع عن حق الإنسان في العيش بحرية وكرامة بصرف النظر عن لونه ودينه وعرقه.

سيناريو خطف الكيخيا من القاهرة صيف العام 1993 وما صاحبه من تواطؤ وتخاذل يبقى عارًا يلاحق كل مَن شارك أو ساهم أو تخلى عن ضميره، سواء مقابل حفنة من المال أو بحثًا عن منصب أو حتى إرضاءً لذي سلطان مهما كان مركزه.

لعنة الكيخيا سوف تلاحق كل شركاء الجريمة النكراء بدءًا من سفير ليبيا لدى مصر ومندوبها لدى جامعة الدول العربية في ذلك الوقت إبراهيم البشاري، الذي استدرجه إلى منزله «الآمن» بالقاهرة وانتهاءً بمَن لاذ بالصمت أو غطى على الجريمة أو شارك في التحقيق معه، ثم قتله أو تركه يموت وأخفى جثمانه في تلك الثلاجة، بأحد المنازل التابعة لاستخبارات نظام القذافي الوحشي قرب طرابلس!

القتلة تناسوا أن الكيخيا كان يمثل ضمير جيل كامل من الشباب الليبي

القتلة تناسوا أن الكيخيا كان يمثل ضمير جيل كامل من الشباب الليبي، ومن بين هؤلاء المخلصين الكاتب والمؤرخ شكري السنكي مؤلف كتاب «منصور رشيد الكيخيا: سيرته ومواقفه وقصة اغتياله».

والكتاب يعد وثيقة مهمة تتضمن تاريخ حياة المناضل الراحل، إلى جانب رصد دقيق لعملية استدراجه القذرة من مصر إلى ليبيا بعد تخديره وشحنه داخل سيارات دبلوماسية عبر الحدود ثم جرى نقله عبر طائرة خاصة إلى طرابلس.

رغم أن الكتاب يحمل اسم الكيخيا ويعالج بدقة مشوار حياته النضالي، إلا أن المؤلف أصر على أن يصبح الكتاب مرافعة ضرورية أمام التاريخ للأجيال الليبية المتعاقبة نيابة عن أغلب المعارضين الشرفاء لنظام القذافي، الذين أفلت قسم كبير منهم بجلده من سيطرة أجهزته الأمنية، فيما اختار القسم الآخر الغربة وتحمل مرارتها بعد أن تقطعت به السبل في وطنه تجنبًا للسقوط في أيدي أذنابه المنتشرين في كل حي وكل حارة، جاهزين للتضحية والوشاية بأقرب الناس إليهم طمعًا في كسب وده أو تجنب أذاه!

لن يغفر التاريخ للقذافي إعلانه بمنتهى الفجور والإجرام أنه سيلاحق المعارضين حتى لو كانوا في القطب الشمالي، ولن يتركهم يعيشون في سلام، بل أطلق عليهم لقب «الكلاب الضالة» للحط من شأنهم وتحفيز كلابه المسعورة لاستهدافهم، إما بالاغتيال، كما حدث مع بعضهم في لندن، بون، روما، أثينا ونيقوسيا، أو بخطفهم كما حدث مع عمر المحيشي في المغرب وغيره من رموز المعارضة الذين يأتي الكيخيا في مقدمتهم.

لقد بذل النظام السابق جهدًا مضنيًّا، وأنفق الملايين على مطاردة وقتل وتشريد أبناء وطنه من المعارضين لأسلوب حكم القذافي، وبدلاً عن أن يخصص تلك الثروات الطائلة لتطوير ليبيا وبناء مؤسسات قوية تحمي المجتمع دخل في مغامرات ومناورات لتصفية رفاقه الذين اختلفوا معه في طريقة حكمه المستبد، والآن يدفع الشعب الليبي ثمنًا باهظًا كنتيجة طبيعية لغياب المؤسسات في عهده، حيث كان بإمكانها ملء الفراغ وحماية البلاد من الدخول في الفوضى كما يحدث حاليًّا منذ سقوط نظام حكمه.

إن كتاب السنكي لم يتوقف عند سرد قصة نضال بطل كتابه «منصور الكيخيا» كرمز وطني بارز، بل روى للأجيال الجديدة قصصًا مهمة لرموز وطنية أخرى ضحى بعضهم بماله وثروته وربما بحياته من أجل تحرير ليبيا والليبيين، كما حقق عشرات الوقائع التاريخية حول الدور الوطني الذي لعبته قوى المعارضة في الخارج حتى تحققت أهدافهم التي توَّجتها ثورة فبراير المجيدة.

السؤال المهم كيف قُتل المناضل الكيخيا وما وصيته وآخر كلماته للقتلة؟

كما عرج الكتاب، من بعيد، إلى ما آلت إليه أوضاع ليبيا بعد انهيار نظام القذافي، إلى الثورة المضادة بأبعادها الخارجية، والمحاولات المستمرة لإجهاض تجربة الليبيين في بناء دولة ديمقراطية حديثة، طالما دعت إليها قوى المعارضة بحيث تضمن مشاركة كل القوى الوطنية في حكم البلاد بلا تهميش أو إقصاء أو ظلم. وطن يقوم على أسس من العدالة والمساواة وإتاحة الفرص للجميع.

اقترب المؤلف بحرص من العلاقة الشائكة بين مصر وليبيا في عهد القذافي، و لم يوجه الاتهام إلى جهة بعينها ولا إلى شخص بعينه، لكني أتصور أن هناك شخصيات مصرية يجب أن توثق رأيها في ملابسات قضية اختفاء الكيخيا من القاهرة باعتبارها قضية خطيرة من شأنها أن تضع سمعة مصر على المحك وتشوه دورها المرموق في احتواء وحماية المناضلين كافة مهما كانت توجهاتهم. أليس من حق أبناء منصور الكيخيا أن يعرفوا الحقيقة؟، وكذلك من حق تلاميذه ومحبيه أيضًا أن يطلعوا على ما جرى من تفاصيل في تلك الليلة المشؤومة، (10 ديسمبر 1993)، وهي الليلة التي تم فيها استدراجه من فندق «سفير» بالدقي إلى ذلك البيت غير الآمن الذي كان آخر محطاته بالقاهرة حتى اعتراف رئيس مخابرات القذافي عبدالله السنوسي بأن الجثمان الذي عُـثر عليه في أحد البيوت بالقرب من طرابلس 2012 هو بالفعل جثمان الراحل منصور الكيخيا.

السؤال المهم كيف قُتل المناضل الكيخيا وما وصيته وآخر كلماته للقتلة؟ الأحداث التي جرت منذ خطفه إلى ظهور جثمانه سوف تحمل كثيرًا من المفاجآت والمعلومات التي تحدد الأساليب والطرق التي جرى خلالها استجوابه، وتجيب عن السؤال المهم كيف قُتل المناضل الكيخيا وما وصيته وآخر كلماته للقتلة؟.

أزعم أن عبدالله السنوسي هو كلمة السر في حل هذا اللغز!، وأنه يملك إجابة عن الأسئلة المهمة التي تطرح نفسها حول تفاصيل خطف وقتل واحد من أهم رجال ليبيا الوطنيين.