Atwasat

الإشكالية الدستورية في ليبيا

الشيباني أبوهمّود الأربعاء 02 مايو 2018, 10:55 صباحا
الشيباني أبوهمّود

لا تزال المسودة التي اعتمدتها هيئة صياغة الدستورتثير كثيرا من الجدل في ليبيا. جل هذا الجدل منصب على محتوى الوثيقة وعلى صياغتها. لسنا هنا بصدد الدخول في هذا النوع من النقاش لأنه قد قيل الكثير فيه، ولأنه صار من الطبيعي أن يختلف حول هذه الوثيقة في بلد يتفنن أبناؤه في إظهار قدراتهم على الخلاف والاختلاف. ولكن اختزال الإشكالية الدستورية في ليبيا في المسودة الحالية هو تسطيح للأمور وقفز على الواقع، فالأزمة أعمق وأبعد من أن تختزل في خلافات نخبوية حول هذا النص أو ذاك. بل إن النقاش الدائر حاليا حول الدستور هو ترف لا تتحمله ليبيا، فالبلد منهار ومستباح ومنقسم، والفساد ينخر فيه حتى يكاد يقضي على ما تبقي من موارده ومدخراته، والناس تقف في طوابير للحصول على أي شيء. النقاش الحالي حول المسودة يذكرنا بالبرلمان الفرنسي الذي كان عاكفا في عام 1815 علي مناقشة الدستور بينما كان العدو (الحلف المقدس) على أبواب باريس. في ليبيا اليوم، كما ساد سابقا في فرنسا، هناك اعتقاد بالخرافة الدستورية التي تقول أن الدساتير في ذاتها قادرة على حل أزمات الدول والمجتمعات. لقد نقلت إلينا هذه الخرافة عبر الليبرالية العربية التي استخدمتها في بداية القرن العشرين في معركتها ضد الملكيات العربية، مدعية أن الدستور هو المفتاح السري لفتح الطريق أمام قيام الدولة الوطنية الحديثة.

الأزمة الدستورية في ليبيا أعمق من أن تختزل في نقاش التفاصيل الواردة في المسودة لان واضعي المسودة وأنصارها يشيدون بحلها لمسألة شرعية السلطة عبرنظام الاقتراع الحر المباشر للسلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكنهم يتجاهلون ما هو أهم وهو حقيقة عدم وجود هذه السلطة أصلا والتي نتصارع، منذ سبعة سنوات، على شرعيتها. فنحن نعيش أزمة شرعية تأسيسية وهى ليست من النوع الذي يمكن حله بالشرعية الانتخابية أو بالدساتير. فالخطأ الذي يبدو أن واضعي المسودة قد وقعوا فيه هو افتراضهم وجود سلطة، وأبعد من ذلك هو افتراضهم أن كيان الدولة في ليبيا هو نفس الكيان في المجتمعات الحديثة، وهذا إسقاط تاريخي لا يدعمه الواقع. فالدولة تجسيد مادي لكينونة المجتمع والسلطة مرآة لهذه الكينونة، وبالتالي لا يمكن أن يكون شكل السلطة منقطع الصلة بهذه الكينونة. بالطبع، لا تثريب على واضعي المسودة لفعلتهم هذه، لأن العادة جرت بأن الدساتير لا تكتب إلا لسلطة موجودة يراد تأطيرها، في حين نجد أننا في ليبيا قد قفزنا على أساسيات الدولة والنظام السياسي وتم الذهاب مبكرا إلى صناديق الاقتراع وكتابة الدستور.

ولتبسيط الفكرة نقول أن الدساتير لا تخلق السلطات لأن السلطة تعبير عن توازن للقوى الاجتماعية والسياسية وهي تجسيد مؤسسي لذلك التوان في جهاز حاكم. فدستور عام 1951 ليس هو من أقام الملكية ولا الفيدرالية وليس هو من نصب إدريس السنوسي ملكا على ليبيا. فهذه القضايا الجوهرية حسمت بين القوى السياسية قبل كتابة الدستور وانحسر دور لجنة الستين فقط في وضع الإطار القانوني لها. إنه لمن الوهم تصور أننا سنصبح دولة ديمقراطية مثل فرنسا لمجرد أنه صار لدينا دستور يكاد يتطابق مع الدستور الفرنسي وربما يزيد عليه في ديمقراطيته وفي مستوى الحقوق المنصوص عليها فيه. فالديمقراطية ليست ما يقوله الشعب بل ما يقع الاتفاق عليه من قواعد لتنظيم الحياة السياسية. وطالما أن السلطة تعبير عن توازن للقوى الاجتماعية والسياسية في المجتمع فإنه لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي في أي مجتمع بدون الاتفاق المسبق على مشروع وطني مشترك، وإلا تحولت صناديق الاقتراع إلى وسائل للتغلب والاستلاء تعوّض الوسائل المسلحة.

لقد اهتم واضعو المسودة بمسألة الشرعية لأنهم تصوروا خطأ أن الدستور بهذا الشكل هو الصيغة المثالية لعقد اجتماعي ليبي، وقد وقعوا في هذا الخطأ لأن فكرة العقد الاجتماعي التي أسست عليها مسألة الشرعية الديمقراطية لا تهتم بالأساس ببيان كيف أصبح الإنسان الحر يخضع لضبط اجتماعي في المجتمع السياسي، بل بكيفية أن يكون هذا الخضوع شرعيا. فالخضوع هو لسلطة موجودة أصلا وتحتاج إلى شرعنة.
الذهاب إلى الدستور في ظل حالة الانقسام وفي ظل عدم وجود سلطة متفق على ماهيتها بين الليبيين وعلى ما يمكن تسميته باستحقاقات ما قبل الدستور سيؤدي إلى أربع نتائج غاية في الخطورة والأهمية:
الأولى: هي أن من سيصل إلى السلطة بالأغلبية سيملك مشروعا للدولة خاصا به، مما سيهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي وينذر بحرب أهلية، إذ سيجد نفسه أمام فراغ تأسيسي أولي سيقوم بملئه.
النتيجةالثانية: هي أننا سنكون أمام دستور بدون حماية. فمن سيحمي هذا الدستور الوليد، ليس فقط من معارضيه وإنما ممن سيستمدون شرعيتهم منه، كما يفعل الآن البرلمان بالإعلان الدستوري أو المجلس الرئاسي بالاتفاق السياسي؟ فمن الناحية القانونية، ليس هناك فرق في القوة القانونية بين الدساتير والإعلان الدستوري المؤقت. لقد سبق لرجال الثورة الفرنسية أن توهموا أن الدستور يحمي نفسه، ولكن الدستور الذي وضعوه لم يصمد إلا لفترة وجيزة. ربما يتصور البعض أن الشعب يحمي الدستور، ولكن مع انتشار السلاح في ليبيا فإن ذلك يعني عمليا أن يتقاتل الشعب ويدخل في حرب أهلية وهي النتيجة التي يسوّق أنصار المسودة أنها جاءت للحيلولة دون وقوعها. الدساتير تحميها سلطة الدولة التي يجب أن تكون محايدة. عملية إقامة السلطة والاتفاق على حيادتيها هي عملية سابقة على كتابة الدساتير. يعد الدستور التونسي الجديد، الذي هو نتاج توافقات القوى السياسية التي كانت تشكل الترويكا، المثال الأبرز لهذه الحقيقة. فأي دستور لا يعكس توازنا حقيقيا بين القوى السياسية والاجتماعية في المجتمع واتفاقا حقيقيا على تحييد سلطة الدولة للحفاظ على هذا التوازن لن يحترم ولن يصمد طويلا. فأين هي اليوم سلطة الدولة المحايدة التي تحتكر وسائل الإكراه المادي وقادرة على لجم المعترضين والعابثين؟.

النتيجة الثالثة: هي أنه بدلا من أن يلعب الدستور دوره الأساسي كوسيلة لضمان سلمية التنافس السياسي، بتحديده المسبق لقواعد اللعبة السياسية، أصبح هو نفسه أداة من أدوات الصراع السياسي. فلم يعد سرا أن أطرافا سياسية معينة في الأجسام التنفيذية والتشريعية الحالية عملت بشكل ملموس على الزج بالمسودة في هذا الوقت لهدف أساسي يتمثل في عرقلة جهود المبعوث الأممي، بغية إطالة عمر المرحلة الحالية، الضامن الوحيدلاستمرارهم في السلطة لأطول فترة ممكنة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض القوى السياسية تدعم اليوم وم المسودة لأن بها بعض المواد التي تخدمها في معركتها السياسية الحالية. صحيح أن واضعي المسودة جاهروا بحيادتيهم تجاه الصراع السياسي الحالي، ولكن هذه الحيادية تثير التساؤل حول الجهة التي يمثلها حقيقة أعضاء لجنة صياغة الدستور، إذا لا يصح سياسيا أن تدعي هيئة مكلفة بصياغة دستور ولو كانت منتخبة أنها محايدة تجاه الصراع السياسي و أطرافه. كونها منتخبة لا يغير من الأمر شيئا، لأن من انتخبها هو نفسه من انتخب الأطراف السياسية المتصارعة وبالتالي لا يجوز الادعاء أنهم في حيادهم هذا يمثلون ذلك الجزء القليل من الشعب الذي شارك في انتخابهم. عدم تمثيلهم للقوى السياسية الليبية يجعل منهم أشبه بالطرف السياسي المستقل، بدليل أن أعضاء لجنة صياغة الدستور ركزوا في نقاشاتهم على إرضاء بعضهم البعض لضمان حصول المسودة على الأغلبية المطلوبة داخل الهيئة، بدلا من التركيز على ضمان حصولها على موافقة القوى السياسية أو موافقة ثلثي الشعب في الاستفتاء العام. فالشعب عند تصويته في الاستفتاء لن يأخذ بعين الاعتبار الأسباب الخاصة بتصويت أعضاء الهيئة. هذا الاستقلال السياسي المزعوم تجاه الصراع السياسي الحالي لم يمنع أنصار المسودة أنفسهم من ترحيل الكثير من القضايا الخلافيةإلى أحد أهم أطراف الأزمة السياسية الحالية وهو البرلمان الحالي العاجز وغير المعترف به من قبل أعلى سلطة قضائية ليبية، بل إنهم قاموا بترحيل الكثير من القضايا إلى ما بعد الدستور وعجزوا حتى عن الاتفاق على ديباجة لدستورهم.

النتيجة الرابعة: هي أننا سنكون أمام نظام سياسي مشلول. فخشية واضعي المسودة المشروعة من الدكتاتورية أدى إلى تبنيهم لمسودة تؤسس لفصل شبه تام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وهذا سيؤدي عمليا إما إلى تعطيل منظومة الحكم أو إلى الاستبداد الذي حرص أنصار المسودة على التصدي له. ففي ظل ضعف الدولة التي يمكن أن تردع أي تغول أو تعسف في استخدام السلطة، وفي ظل الرفض الرسمي والشعبي الحالي للأحزاب فإنه من غير المتصور إقامة أي نوع من التعاون بين رئيس منتخب مباشرة وبشكل فردي من الشعب وبين برلمانيين منتخبين أيضا بشكل مباشر وفردي. فليس هناك أي رابط سياسي بين أشخاص الجسمين، خصوصا وأن عملية تعيين الحكومة غير واضحة في المسودة الحالية، مما يوحي أن الرئيس ينفرد بتعيينها ولا يملك البرلمان إلا حق إقالتها بأغلبية الثلثين، وهو أمر شبه مستحيل ولا مثيل له في دساتير العالم. الرئيس يحتاج فقط للبرلمان لاعتماد الميزانية التي اشترطت المسودة أغلبية الثلثين لاعتمادها في سابقة دستورية تؤكد الإصرار الليبي على الخروج عن كل ما هو مألوف وعن عدم الاستفادة من تجارب الأمم والشعوب الأخرى. فهل من المتصور عمليا أن يوافق سنويا أغلبية الثلثين في البرلمان على ميزانية حكومة غير مرتبطين بها سياسيا؟ لقد أدى الفصل التام بين السلطات في بداية ظهورالديمقراطيات الحديثة إلى شلل بل وإلى صدامات عنيفة قادت لحل البرلمانات وتعطيلها لفترات طويلة، ولم تنته هذه الصدامات إلى أن اضطر ملوك أوروبا، بسبب حاجتهم للضرائب التي تدفعها الطبقة البرجوازية المسيطرة في البرلمانات، إلى تعيين رؤساء حكومات قريبين من البرلمانين لإقناعهم بزيادة الضرائب كلما احتاج الملوك لذلك لتغطية تكاليف حروبهم. لا شك أن الاستبداد مفسدة ولكن شلل الدولة أو ميوعتها، كما هو الحال عندنا اليوم، مهلكة,،وفن السياسة يكمن في إيجاد توافقات تأسيسية تصاغ في قواعد دستورية تجنب البلدان الوقوع في المفسدة وتحول بينها وبين المهلكة.

فأين المسودة الحالية من هذا الفن؟
من حق واضعي المسودة الدفاع عن جهدهم المقدّر في هذه الظروف الصعبة ولكن عليهم تقبل الاعتراضات عليها، ليس فقط في محتواها ولكن في فلسفتها وفي توقيتها وأهم من ذلك في أإسباب وجودها، و لا يجوز لهم التحجج بأن الفيصل في الحكم على المسودة هو الشعب وبالتالي يجب استفتاؤه عليها، فالدساتير أعمال سياسية نخبوية وإذا كان المعيار والفيصل في الحكم على المسودة هو الشعب، إذا فليسمح للمعترضين عليها بتقديم مسودة تحمل رؤيتهم ولتذهب المسودتان للشعب للاختيار بينهما. إن عدم القناعة بتوافر الظروف المناسبة والشروط الضرورية لكتابة الدستور في ليبيا هو ما يفسر فتور المجتمع الدولي حيال المسودة الحالية و ميله إلى تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية توحد المؤسسات وتعمل على خلق المناخ الملائم لكتابة الدستور.