Atwasat

رفة عصفور 2

علي عمر التكبالي الأحد 04 مايو 2014, 01:29 مساء
علي عمر التكبالي

بيني وبينكم طريقٌ طويلٌ يقف في تلافيفه سيَّاف بعين في جبهته وعين في قفاه.. أن أكتب ما في قلبي احتضار، وأن أقول ما في صدري زفرة، وأن أصرخ في وجه الجلاد عبادة.. وكما تفعل العصافير حين تقف بين الهواء والهواء أكتب وأقول وأصرخ، فارتفع كما الحلاج في الهواء سحابة دماء بين السماء والبحر.

المدرسة التي عرفتها
مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية!. لا يعرفها الآن الكثيرون، ولا يشعر بوجودها السائرون.. تأبطت ذراع صديقي ودلفنا عبر البوابة الكبرى إلى الداخل.

لم أر حافظ البدري، الحاجب العتيد الذي يستوقف كل زائر، ولم أجد الحارس الصغير بلباسه "الميري" يقود كل حائر.. فتحت عيني، وخياشيمي، وكل حاسة ثمينة لم يستطع الزمن الحثيت أن يسرقها، فتنفست عطر الورنيش من مصنع الأحذية، وانتشيت بصوت المقص من دار الخياطة.. ثم تماديت فأطللت على نقش بلاط جميل، رسمته أيادي طفل عليل.. لا زال عبق العثمانيين يضوع من ورش الصناعة المنبثة في كل ركن، ولا زال رنين النحاس، وطنين الأجراس، وخشخشة المخرطة، وصرير المنشار، وطرقعة المطرقة فوق رأس المنشار.. لا زالت الأصوات تئز في أذني، فيرتعش بدني، وأنا أتذكر اليوم الذي ولجت فيه إلى هذه الساحة، حيث تجلس "البلوزة" العظيمة وتطمس بظلالها الفضاء المشمس.

كان زمنًا جميلاً نقوم صباحًا فنصلي، ثم ننطلق إلى المدرسة أو إلى ورش الصناعة.. في الظهيرة نصطف أمام صالة الأكل، ثم نصلي ثانية ويعرج كل منا إلى مكان نشاطه.. من كان في العمل إلى المدرسة، ومن أكمل درس اليوم إلى الورشة.. شبابٌ يافعٌ يحفر في قلبه حب الدين والسلام، والوطن والنظام.. تعلمنا اللغات والموسيقى، والفنون والثقافة.. ومرحنا في زمن كان فيه المراح ضنينا، وسرحنا في دروب الدنيا حينما كان السراح ثمينًا.

صعدت وزميلي السلالم العتيقة إلى "الكرتيلّي" فلم أسمع ضجيج المتبارين، ولا صياح المشجعين.. جلست على الكرسي الجانبي الذي كان متكأ للشيخ عبد الله زريبة، فسمعت الكرة تئن تحت ركلات فريقنا، ونحن نعاند الفريق المضاد كي نهزم حظوظنا.. وكدت ألمس عصا "المبصّر" علي رجوبة وهو يهوي بها على صبي متعنت.. ضحكت سرًا وأنا أرى المشرف سالم الخمسي يجوس المخزن الصغير باحثًا عن صحن من "الكسكسي" خبأه في مكان أمين، فكان قراره في كرش سمين .. حاورت "المبصر" عمر الفزاني عن أمر في الدين، وعن صحة الوضوء مع العرق، والفرق بين قلة النوم والأرق، محاولاً إلهاءه كي ينجو زميلي من ذنب قد لاح، فارتفع صوت الشيخ زريبة ينذرني من الإلحاح.. انطلقت مسرعًا قبل أن تصلني عصاه، وغبت في وطيس المباراة.. كان الصدى يردد صوت الذكرى، والخواء يوشوش أنين الحسرة.

جذبني صديقي وهو يرى وجومي.. انتبهت للدمار المتراكم فوق البنيان، والمجد الذي طواه النسيان.. لمحت آثار جرح فوق خد المبنى العتيق، وسمعت من طاولة قديمة زفرة ضيق.. سألت صديقي، أو ربما همست لنفسي، لماذا يعتدي الكبار على مدرسة الصغار؟ ولماذا يتحول العز إلى صغار؟ لماذا تختفي الفصول والعنابر والورش والمنابر ويصبح الخراب عنوان المدى؟

قال رجل وخط الشيب رأسه، لمحت فيه زميلاً قديمًا قدم الخط الغائر في صحن وجنتيه.. لم يستقم أمرنا مذ أن جاءنا التجار، وتلاعبوا بما هو ماضٍ وما هو قار.. أعداء الوطن لم ينظروا إلى ثقافة أو حرفة.. لم يردعهم تاريخأو سمعة.. نكشوا كل ركن في الصرح كي يدفنوا الحضارة، ويزرعوا الخسارة بحثًا عن ذاك المسخ الأخضر الذي يدعونه "دولار".

عودة الشهيد
اكتبي يا أحلى وردة
عن زمان الردى والردّة.
خبئيني في خبايا الظلمة
قولي ذاك الشهيد:
مضى كي يعود
في يديه شمعة.
قولي للصبايا في ثنايا القرية
أنّي سوف أعود
مرة تلو المرّة
في حنايا الناي نغمة
ذات يوم سعيد
كي أصلّي
فوق أرضي الحرة ركعة،
واندسّ في وجه أمي قبله
في يوم عيد.
ازرعي اسمي
فوق غصن شجرة
كي ينمو من جديد.
أعزفيه نغمًا
كي تلاقيني
في قلب وليد.
وتعالي.. وتعالي
كي نلاقي الشمس
تصب الدفء
دفقة.. دفقة
في قلوب الشعب الودود.
ولنغنّ للغد الآتي
لحن الخلود.