Atwasat

القلق ملح الحياة

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 04 أكتوبر 2016, 01:59 مساء
محمد عقيلة العمامي

قرأت أن البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية قال إن «الملح يعطي للحياة طعمًا» وتذكرت على الفور صديقي الراحل خليفة الفاخري الذي استهل كتابه «بيع الريح للمراكب» بإهداء لي يقول إنني «ملح الحياة وسلواها»، ولم يمر وقت طويل حتى ارتفع ضغط دمي وصار غذائي «سامط» كحال بلادنا الآن.

ولقد وقعت في يدي مقالة عنوانها «من قال إن الملح ضار؟» يقول كاتبها بالحرف الواحد: «إنه من أنفع المعادن وأعجبها فمنذ ألوف السنين والملح هو ما يطيّب تاريخنا، لغتنا وطعامنا». وأنا في الحقيقة لا أعرف كيف يُطيّب تاريخنا ولغتنا، ولم يخطر ببالي تفسير واحد يُقنعني أنه يُطيّب لغتنا، ولكن هذا ما قاله الكاتب الأميركي (Jack Denton Scott) وهو روائي وله عدد من كتب الطهي توفي سنة 1995، ولربما بسبب ضغط الدم.

واعترف بأنني استفدت من بضع معلومات منها أن «الملح كان ثمينًا في الحضارة الرومانية إلى حد أنه يُدفع إلى الجنود كجزء من مرتباتهم، وفي المناطق التي يندر فيها الملح يُقايض بوزنه ذهبًا، بل وفي الحضارة الإغريقية كان يُبادل بعبد. ومن هنا صيغ التعبير: إن فلان لا يساوي ملحة!». أما الحكيم الروماني بلينوس الأكبر قال: «الحياة الحضارية مستحيلة من دون ملح».

هو الحالة في بلدكم صعبة للدرجة دي؟ لا.. لا.. هي صعبة على الشبعانين بعد الجوع

والحقيقة أنني لم أتعجب كثيرًا من هذا الرأي بشأن الملح فلي معارف يسفونه مثلما يسف الأطفال السكر، ولا يعرفون حتى معني الضغط. ولكن الخارقة أن كاتبًا آخر قال إن «هناك متعة في الهم والألم»، فخطر على بالي الفاخري مرة ثانية، فلقد استعار صورة بليغة عندما قال في قصة (غربة): حين يكون دُمل في مكان ما بجسدك؛ دُمل متخم ويتسلل إصبعك ليُحلق حوله في لمسة دائرية ناعمة، هل تفهم؟ وتواصل ذلك عدة مرات، شاعرًا بصلابته تحت إصبعك، عندئذ تشعر بلذة، بمتعة خدرة، تدفعك إلى حكه بأحد أظافرك بحذر كأنك تحاول دغدغة أحد ما في قدمه. هل تدري هذا؟ حسنًا، ذلك الدمل إنه قلبي..».

ثم تتواصل قرأت مشابهة لأجد من يقول: «إن القلق ملح الحياة» لأنك تعتقد أن الحياة أكثر سعادة إذا خلت تمامًا من المشاكل ذلك صحيح إلى حد ما، ولكنها ستغدو مدعاة إلى الملل. ولكن إذا عرفنا متى نقلق، وأي الهموم نختار، فلربما كان لذلك فائدة هائلة. ولقد سرد الكاتب عددًا من الأمثلة عن اختيار القلق، وعن الهموم، باذلاً جهدًا خارقًا في وضعها في إطار فكاهي على طريقة الحس الفكاهي الأميركي، ولكنني وددت لو أنه ما زال حيًا فأترجم له ما كتبه صادق النيهوم على حالة حمير الفندق، التي كان الأطفال في زمن النيهوم يضعون في آذانها أعقاب السجائر من باب إخراجها من حالة الملل جراء انتظار دورها في الفوز بنقلة تحركها من حالة الملل، وأيضًا تُغير أجواءها حتى لا تشيب لأن حميرًا مربوطة لا تأكل وأخرى متخمة من بوفيهات فنادق العالم كلها.

وبمناسبة فنادق العالم حدثني صديق يعمل في فندق فيرمونت المطار بالقاهرة عن كميات الأكل الرهيبة التي تلتهمها الوفود الليبية، لدرجة أنهم يأخذون معهم صحونًا ممتلئة إلى غرفهم ليسألني في النهاية: «هو الحالة في بلدكم صعبة للدرجة دي؟» فأجبته: «لا.. لا.. هي صعبة على الشبعانين بعد الجوع، ولكن الجوعانين بعد الشبع، القانعين بملح الحياة لا يجدونها صعبة إلاّ على أولئك الذين لا يساوون ملحة!». فقال: «إيه؟ مش فاهم؟». أجبته: «ولا أنا».