Atwasat

البصيرة.. خريف بنكهة الربيع

طرابلس - بوابة الوسط: عبد السلام الفقهي الأحد 05 يناير 2020, 01:18 مساء
WTV_Frequency

ما نشاهده في الحراك اللبناني، وزلزال الأحداث العاصفة بالمنطقة العربية، يحيلك إلى محطات الرؤية عند نصوص سالفة تستحضرها الذاكرة كمقارنة، يمكن اعتبار رواية «البصيرة» للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو إحدى نماذجها.

تبنى الرواية الصادرة 2004 عوالمها على ثنائية النور والسواد، نور الإدراك وسواد العمى الذي نجده كنص سردي سابق بإيحاءاته الممهدة للبصيرة، يتمأسس على ذات التيمات، كمحور ارتكاز، ونقطة رجوع لفواصل الأحداث الملغزة في النص، وجهدت معاول هدم جبارة للساسة، النظر من نافذة أو حتى كوة صغيرة، تقودهم إلى تفسير مقنع لعقدة الأصوات البيضاء، وهي تهدد كمد عظيم بنيان حسابات وأسوار أحزابهم.

لم يكن خيار اللاصوت للسكان إلا بوابة عبور لصمام الحلول المحتملة المزعزعة لليقين المزعزم للزعامات المهزومة بالتصويت السلبي، والذي يعبر عنه رئيس اللجنة الانتخابية «نحن متوثرون، حائرون، مشوشون» ص19، فقوانين الإزاحة لم تعد حكرا لبراغميتهم، هناك يقف مراقبا شريكهم المهمش والمرعب «الناخب»، ولأن غشاوة العين الحزبية متمادية في سماكتها، تستحيل الأاشياء إليها خيالات، وتتشرنق في نرجسيتها مغادرة مجال الرؤيا تماما، غارقة في وهم الإدراك، ولن يكون صديقها اللذوذ «الناخب الأبيض» إلا ظلاميا مخادعا، ولا غرابة في توصيف رئيس حزب الوسط لتلك الحالة: «الحقيقة أننا كالغرقى في وسط المحيط، بلا شارع ولا بوصلة ولا مجداف» ص20.

أحزاب اليمين والوسط واليسار لم تتجرع مرارة التصويت المخجل من دوائر المركز فقط، بل من المجالس المحلية التي طالما أذلها انتصار السادة «الذين اعتقدوا أنهم يضعون الملك في بطونهم لمجرد أن الصدفة جعلتهم في العاصمة» ص36، هنا تتجاور الرؤيا وتتسع جغرافيتها مندغمة في فوران بصيري لا يلامس كنه الناموس السلطوي بل تتعارض معه بشدة، مما شكل وقع مفاجأة ذهبت بمواقفه إلى ردود أفعال سوريالية «عزل المدينة».
تنتقل الإحالة إلى مستوى درامي آخر من المواجهة بين الوزراء ممثلي البصيرة، الثقافة والعدل، مقابل حراس العمى، الداخلية والدفاع، إذ لا مجال في سلم الفرضيات لوزيري البصيرة حتى خارج شروط المغزى الروحي، إلا في هذه الدوائر الإشراقية المنبعثة من صحوة تسعى لاسترداد كينونتها المتشظية، فالانكفاء عند هذه الزاوية ارتداد سوداوي قاتل.

طالع أيضا: «زمن الأخ القائد».. الراوي يغتال البطل

وإذا كانت ضفة البياض في نظر الآخر مؤامرة من اتجاه فوضوي، فإن المحاججة الثقافية تقول إن «الفوضويين لم يقترحوا أبدا ولا حتى على المستوى النظري ارتكاب أفعال بهذه الصفات» ص58, عدا أن فوبيا البياض حولت الألوان إلى كابوس، وجعلت المدينة الحالمة تغرق في سديم المرادفات، فلربما تتحايل الحكومة على صدمتها، ويجده السكان ملاذا لغويا، من جواسيس الأثر وهم يقتفون أثر نطق الألوان على ألسنتهم، وسنرى الورقة البيضاء في كهف اللجوء اللغوي عديمة اللون، والمفرش الأبيض مستعيرا لون اللبن، كما أن البياض سيتحول في القاموس المخابراتي إلى قبة مخيفة فـ«أفضل رقابة يمكن أن تفهم هي الرقابة التي تشبه الشمس» ص63.
تعزل الحكومة المدينة لتصارع المجهول، مستندة على رغبة جنونية لإعادة مارد البياض إلى قمقمه، تتطور وصفة الإعادة إلى إرسال مردة الموت للشوارع، في انتظار صرخة استغاثة، غير أن حالة التمثل المعرفي للمدينة، أخذت شكلها الكامل في استيعاب كل دلالات ومفردات المناورة النفسية، مترجمة جوهر الكشف الذاتي الكبير، في إجابة الفتاة لسؤال ضابط المخابرات «إننا لهب صغير ومرتجف، مهدد في كل لحظة بالخمود، نحن نعرف الخوف، وقبل كل شيء يسكننا الخوف» ص79.

خطوة أخرى في اتجاه البصيرة كانت في ظن سدنة المعبد «السياسيون» سبرا لشيفرة السر الأبيض، إلا أن رجل المباحث المكلف بالقبض على المتآمرين الأشباح، يكتشف في لحظة فارقة أكذوبة المدينة العمياء المتمردة، وأنه يقف في فضاء البصيرة قادما إليها من مكامن العتمة، لذا قرر البقاء لاسترداد روحه المسروقة، يراها باكيا متشنجا كما الطفل «تطير متماهية مع أوراق خلاصته التي أهداها للناس في مقال: «ماذا يتبقى لنعرفه» كالحمام يستريح إحداها على كتفه ثم تنزلق حتى تصل الأرض، فالمدينة أمسكت القضية بين يديها» ص411.

لم يتبق في فضاء الصحوة إلا تمثال سيدة الدورق المائل وهي تتوسط الحديقة، في انتظار الماء، كرمز للانسداد السياسي، وقد وجد المأمور في انتظارها مرادفا لمحنته وهو يحاول اكتشاف ذاته من جديد، وتناظرا عاطفيا يخلص لمساءلة سراق اكسير الحياة، يجلس متدثرا بمعطفه في الحديقة متأملا صبرها وصمتها الحزين، غير أن المعطف الذي حماه من البرد، لم يمنع عنه شبح الموت المرسل من جحيم حكومة العمى، بعد أن تحول في نظرهم إلى خائن، كان عليه بالتالي دفع ضريبة البصيرة «بعد أن استراح متنهدا برضا، جاء من خلفه الرجل ذو ربطة العنق الزرقاء ليطلق عليه رصاصة النهاية» ص419.

لم يستطع الناخب الأبيض الحصول على لوحة زهرته الربيعية، لأن العمى السياسي صدر جداريته الخريفية الكئيبة، كواجهة لونية وحيدة مشفوعة بتواقيع القتلة وبنكهة ربيع مسروق.

لوحة لمريم كمال، تشكيلية لبنانية (بوابة الوسط)
لوحة لمريم كمال، تشكيلية لبنانية (بوابة الوسط)
البصيرة.. خريف بنكهة الربيع

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
«سي إن إن» تعرض لقطات هجوم بي ديدي علي حبيبته السابقة
«سي إن إن» تعرض لقطات هجوم بي ديدي علي حبيبته السابقة
«الثقافة الفلسطينية» تحيي ذكرى النكبة بأسبوع «سردية سينمائية» (صور)
«الثقافة الفلسطينية» تحيي ذكرى النكبة بأسبوع «سردية سينمائية» ...
ريتشارد غير في «أوه.. كندا» بعيد عن أدواره الأكشن
ريتشارد غير في «أوه.. كندا» بعيد عن أدواره الأكشن
مركز السينما العربية يعلن أسماء الفائزين بـ«جوائز النقاد»
مركز السينما العربية يعلن أسماء الفائزين بـ«جوائز النقاد»
تركمانستان تدشن أحد أكبر التماثيل لأشهر شعرائها
تركمانستان تدشن أحد أكبر التماثيل لأشهر شعرائها
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم