Atwasat

ميتافيزيقا الانحراف الأخلاقي

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 07 مارس 2021, 08:55 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

يسيطر التفكير الميتافيزيقي على مواقف ورؤى معظم الناس في جميع أنحاء العالم. وهذا المستوى من التفكير لا يقتصر على الدين، بمعناه العام. فالتفكير الميتافيزيقي هو الذي أنتج الدين، وليس العكس. إنه تفكير يشمل المؤمنين المتدينين وغير المتدينين واللادينيين.
ونعني بالتفكير الميتافيزيقي ذلك النوع من التفكير الذي يؤمن بأن للأشياء جواهر معطاة مرة وإلى الأبد. أي يؤمن بثبات الأشياء وبراءتها من أي تغيير.

فالهوية، مثلا، هي، بالنسبة إلى هذا المنهج في التفكير، جوهر معطى لا يحول ولا يزول. ورغم أن المؤمنين بهذا التفكير يعلمون بتغير الهويات وتبدلها وأنها، مثلها مثل الكائنات الحية، يلحقها الكون والفساد، ويعاينون التغير البطيء للهويات في مجتمعاتهم ذاتها، إلا أنهم يتشبثون بهذه الرؤية.

فهم يعرفون، مثلا، أن هوية أوروبا قبل سيادة المسيحية فيها لم تعد هي نفس هويتها بعدها. وأن هوية الجزيرة العربية ومناطق أخرى، مثل فارس والسند، قبل سيادة الإسلام فيها ليست هي نفس الهوية بعد هذه السيادة. كما يعاينون، مباشرة، التغير البطيء، مثلما قلنا، لهوية مجتمعاتهم نفسها، إلا أنهم يعتبرون التغير الذي يلحق مجتمعاتهم مجرد تشوه نتيجة غزو ثقافي، وليس حصيلة عملية طبيعية.

وهم ينظرون أيضًا إلى "أصناف" البشر على أنها عناصر (= جواهر) معطاة. وليس أدل على ذلك من المثل الشهير القائل "الناس معادن". فالمعادن، مثل الحديد والنحاس والذهب، هي عناصر، وبالتالي جواهر ثابتة الخصائص. وأسوأ من ذلك المثل الليبي عديم اللياقة القائل "كسكسله يرجع لصله"، وهو عديم اللياقة (كي لا نستخدم تعبيرا قاسيا يستحقه) لأن لفظة "كُسْكُسْ" يُنادى بها على الكلاب، والمقصود أن الكلب حتى وإن كان متخذا هيئة أخرى فإنه حين يسمع هذه اللفظة يكشف عن هويته الحقيقية، عن كلبيته، عن جوهره أو معدنه أو عنصره الأصلي، وأن هذا الأمر ينطبق، حسب معتقد هؤلاء، على البشر، فمهما بدا عليهم من تغير (= من أعراض) فإن جوهرهم يظل ثابتا غير متأثر بما طرأ عليه من تبدل ويكشف عن نفسه عند أول امتحان.

تظهر هذه "الفرضية" في كثير من الروايات والمسرحيات "الشعبية" والحكايات التراثية. مثلا: أمير يريد أن يتزوج أميرة، لم يسبق له أن رآها، فيذهب إليها رفقة خادمه، وفي الطريق يقترح الأمير على خادمه تبادل الأدوار، فيرتدي الخادم ثياب الأمير ويرتدي الأمير ثياب الخادم، وتفعل الأميرة المنتظرة مع خادمتها نفس الشيء، فتنشأ علاقة حب بين الخادم المزيف والخادمة المزيفة، وعلاقة حب بين الأمير المزيف والأميرة المزيفة، أي تنشأ العلاقتان بين الجواهر متجاوزة الأعراض، بين المعادن أو العناصر الثابتة. مصداقا للمثل القائل "الطيور على أشكالها تقع".

ما من شك لدينا في أن هذه النظرة، علاوة على ميتافزيقيتها، بالمعنى الذي أبناه أعلاه، أي لا واقعيتها، هي نظرة منحرفة أخلاقيا. إنها نظرة تنشيء حواجز بين الناس على أسس طبقية وأسس المكانة الاجتماعية والأوضاع العائلية، بصرف التفكير في تأثيرات التعليم والشارع والقراءة والعمل، والفروق الفردية والقدرة على تطوير الذات. إن تأثيرات التربية الأسرية والبيئة الاجتماعية في سلوك الأفراد، أمر واقع لا ننكره. وأصحاب التفكير الميتافيزيقي يستندون إلى هذه "الواقعية" التي هي من طبيعة ما يسميه أمين معلوف "واقعية مغتصبة"*. ذلك أن هذا التأثير مجرد تأثير "احتمالي" وليس تأثيرا "حتميا". فابن محترف اللصوصية ليس ضروريا أن يكون لصا، وابن الفقيه المتدين ليس ضروريا أن يصبح على شاكلة أبيه. والذي تربى في أسرة مشهورة بالكرم قد يصبح شخصا بخيلا، والعكس... إلخ.

* أمين معلوف: الهويات القاتلة، ترجمة: نهلة بيضون، دار الفارابي بيروت- لبنان، ط3، 2015، ص 47.