Atwasat

المبدأ المُحبِط

عمر أبو القاسم الككلي السبت 13 فبراير 2016, 01:34 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يسود اعتقاد بين غالبية شعوب ما يعرف بالعالم الثالث، بين عامة الناس كما هو الشأن بين جل مثقفيها، بأن شؤونهم توجهها وتتحكم فيها مصادر القرار والسيطرة في الغرب، خصوصا أمريكا، مثلما يتم التحكم في أجهزة الاستقبال التلفزيوني عن طريق الريموت كنترول. فالغرب درس، ويدرس، تفاصيل تاريخ وثقافة هذه الشعوب وحياتها الاجتماعية ونفسياتها العامة وأصبح على إدراك تام للذهنية السائدة ومنهجية التفكير وردات الفعل في مواقف معينة، فما عليه إلا أن"يختلق" وضعا حتى يحصل على السلوك المتوقع من الحكام أو الجماهير. إنه يحركنا كما يشاء. إن الغرب يفهمنا أكثر مما نفهم أنفسنا، يتصور الكثيرون.
في هذا التصور قدر من الصحة، يقل كثيرا عما فيه من تهويل.
أريد هنا أن آتي بأمثلة تنقض هذا الرأي، أو تكسر حدته، من كتاب هيلاري كلنتون، التي تولت منصب وزارة الخارجية الأمريكية في الفترة 2009-2013"الخيارات الصعبة Hard choices":
في موقع من كتابها هذا تتحدث عن أول زيارة لها إلى بورما وكيف أن مختصين في الشؤون الآسيوية حذروها والوفد المرافق من ارتداء أية ملابس تحتوي لونا أبيضَ أو أسودَ أو أحمرَ لأن هذا يتعارض مع"معايير الثقافة المحلية "، وتقول بأنها كانت قد ابتاعت منذ فترة قصيرة جاكتة بيضاء مناسبة للجو الحار فقررت أخذها معها لترتديها في حالة ما إذا لم تكن نصيحة المختصين مطابقة للواقع. وحين نزلت هي ووفدها من الطائرة كان جمهور المستقبلين البورميين يرتدون الألوان التي نصحوا بتجنبها!
تعلق هيلاري على هذه الواقعة بالقول:"تمنيت أن هذا ليس علامة على سوء فهم عميق من جانبنا، ولكن يمكنني الآن على الأقل ارتداء جاكتتي البيضاء باطمئنان"
في هذا المثال يتضح مدى التوهم بأن الغرب يدرك كل شيء عن ثقافات الشعوب الأخرى. لعل هؤلاء المختصين اعتمدوا على دراسات آنثروبولوجية قديمة بهذا الشأن ولم يتابعوا ما طرأ على ثقافة البورميين من تبدلات.
في مكان آخر من كتابها تقول بشأن العراق:"حينها كان واضحا إلى أي حد كنا مخطئين في فهمنا للعراق".
وحتى بالنسبة إلى أولئك الحكام الذين أسهمت أمريكا في إيصالهم إلى السلطة، ويسود الاعتقاد بأنهم عملاء مطيعون للآوامر الأمريكية وأنهم مجرد دمى تحركهم أمريكا كيفما شاءت، نكتشف أن الحال ليس على هذا النحو وأنه أعقد بكثير مما نظن. تقول عن حامد كرزاي الذي أصبح رئيسا لأفغانستان بفضل الغزو الأمريكي في 2001 أنه في أحيان عديدة كان"يلوم الأمريكان بخصوص العنف في بلاده أكثر من لومه طالبان. وكان هذا أمرا عسير الهضم" وتقول معلقة على أحد الحوارات معه بأنه"تمسك بموقفه[حرفيا: ثبَّت قدميه dug in his heels]" وتقول عنه بخصوص اقتراح إجراء مفاوضات سرية مع طالبان أنه"كان على استعداد دائم للتفاوض مع طالبان وفق شروطه" وبصدد الاتصالات السرية بين الأمريكان وطالبان تقول هيلاري عن الحليف الباكستاني:"إذا ما اكتشف الباكستانيون أمر هذا اللقاء فقد يقوضون المحادثات مثلما فعلوا سابقا مع جهود كرزاي".
نكتفي بهذه الأمثلة للتدليل على أن الغرب ليس كلي العلم والقدرة والحضور، مثلما يتصور الكثيرون. وأن أمريكا لا تتحكم تحكما مطلقا حتى في"عملائها". لقد سبق وأن هزمت في فييتنام وتعاني الآن معضلات دقيقة مع كوريا الشمالية وإيران، كأبرز مثلين.
إن الإيمان بمبدأ أو فكرة التحكم المطلق من قبل أمريكا بالشعوب غير الأوربية أمر محبط تماما للتطلعات الوطنية التحررية. إن تصور أن حُكامنا، بغض النظر عن سوئهم، عملاء أو منصبين من قبل المخابرات الأمريكية وأحزابنا السياسية مصنوعة من قبل الغرب وتحركاتنا الشعبية محركة بواسطة"أيد خفية" يدفعنا إلى التسليم بهذا القدَر والكف عن أية نأمة اعتراض أو مقاومة.