Atwasat

مشاهد ثقافية من زمن الكِبار! (1-3)

سالم الهنداوي الخميس 13 يونيو 2024, 06:02 مساء
سالم الهنداوي

..خلال عقود السبعينيّات والثمانينيّات والتسعينيّات من القرن الماضي حظيتُ بفرص المشاركة في العديد من الندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية العربية، من بينها مشاركتي لدورتين في مهرجان «المربد» الشعري في بغداد خلال عقد الثمانينيّات بدعوة شخصية من المثقّف الراحل «لطيف نصيّف جاسم» وزير الثقافة العراقي الأسبق، كما وضيفاً على مهرجان قرطاج السينمائي بتونس ومهرجاني القاهرة ودمشق مطلع التسعينيّات، وكذلك «الأسبوع الثقافي العربي الليبي» الضخم في العاصمة اليمنية صنعاء عام 1987.. غير أنني أعتبر أن أكبر لقاءيْن ثقافييْن كان لهما القيمة الثقافية الكبيرة والأثر الثقافي الكبير، خلال مرحلتيْن مهمّتيْن في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، الأول «المؤتمر الحادي عشر للأدباء والكُتّاب العرب» الذي أقيم في مدينة طرابلس بليبيا عام 1977، و«الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفني» الذي أقيم بمدينة أغادير بالمغرب عام 1988, وهو الملتقى الأول فعلاً وكان الأخير طبعاً!

في «المؤتمر الحادي عشر للأدباء والكُتّاب العرب» في سبتمبر 1977 حَضَرَتْ أسماء كبيرة ومهمّة من مفكُّرين وكُتّاب وأدباء كانوا في السبعينيّات نخبة المثقّفين العرب، شعراء كِبار من المشرق والمغرب، مثل أدونيس ومحمد الفيتوري ومظفر النوّاب وشوقي بغدادي وأحمد عبدالمعطي حجازي وأحمد دحبور وناجي علّوش وعزالدين المناصرة ومحمد علي شمس الدين وعفيفي مطر وشفيق الكمالي وحلمي سالم ومحمد بنّيس ومنصف المزغنّي وجاد الحاج ومحمد عمران وممدوح عدوان ونزيه أبوعفش، وآخرين.. وقصّاصون وروائيون مثل إميل حبيبي وسهيل إدريس وإلياس خوري وعبدالرحمن منيف والطاهر بن جلّون وصنع الله إبراهيم ويوسف القعيد وإدوار الخراط وصافيناز كاظم ومحمد البساطي وغالب هلسا ورشاد أبوشاور ويحيى يخلف وكوليت خوري وهاني الراهب ومحمد زفزاف وخناته بنونة وإدريس الخوري وأحمد بوزفّور، وآخرين.. ونقّاد مثل محيي الدين صبحي وأبوالقاسم كرّو وعلي عقلة عرسان ومطاع الصفدي وأحمد سعيد محمدية ومحمد برادة وأحمد المديني ورجاء النقاش وفخري قعوار ومحمد الغزّي وخلدون الشمعة وعبدالله أبوهيف وآخرين.. وتقرّر في ذلك الجمع الكبير من المثقفين العرب تغيير الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكُتّاب العرب برئاسة الأديب المصري الكبير وزير الثقافة «يوسف السباعي» على خلفية زيارته لإسرائيل مع الرئيس الراحل «أنور السادات»، غير أن الجميع في يوم الختام تفاجأ بدخول «يوسف السباعي» قاعة المؤتمر وصعوده الفوري للمنصّة حيث ألقى كلمة الرئاسة مدافعاً عن الاتحاد وغادر عاجلاً دون أن يصفّق له أحد، وهي أسرع زيارة للأديب الوزير لطرابلس سقط خلالها ثقافياً ليسقط بعد أشهر قليلة جسداً مدمى باغتياله في «نيقوسيا» بقبرص على يد فلسطينيين مطلع العام 1978.. وباغتياله المؤسف خسرنا كاتباً وأديباً كبيراً ورّطته السياسة في منعرجاتها التي طالت وقتها الموقف الثقافي العربي من تسييسٍ لمنابره الآمنة، ولتكون الخصومة الثقافية حول إعادة تشكيل الاتحاد العام في طرابلس موقفاً سياسياً مؤجّلاً إلى قمّة بغداد العربية في العام 1978 التي علّقت عضويات مصر الإقليمية، حيث تولى الأمين العام المساعد «شفيق كمال» أمانة الاتحاد، وتم تعديل لائحة النظام الأساسي بحيث يكون مقر الاتحاد هو بلد الأمين العام، وظل مقر الاتحاد في العراق لمدة ثلاث سنوات، انتقل بعدها إلى تونس، ومنها إلى سورية، ثم إلى الأردن، ثم عاد إلى سورية مرة أخرى، فيما ظلّت عضوية مصر معلّقة إلى عام 1997.. وفي العام 2006 عاد مقر الاتحاد إلى القاهرة بعد انتخاب الكاتب «محمد سلماوي» رئيساً للاتحاد العام والذي ظل في منصبه تسع سنوات متتالية حتى تعديل اللائحة لمرّتيْن كان آخرها في المؤتمر العام الرابع والعشرين، والتي قضت بأن تكون مدة الأمين العام أربع سنوات، وذلك بعد تولي الشاعر الإماراتي الراحل «حبيب الصايغ» رئاسة الاتحاد عام 2015..

أهم ما في ذلك اللقاء الثقافي الكبير في طرابلس عام 1977 هو اللقاء نفسه بين مثقفي الوطن العربي، مشرقه ومغربه ومهاجريه، بشُؤونه وشجونه، بقضاياه الثقافية قبل السياسية، وبهموم النشر والانتشار وأهمية التواصل الثقافي لندرة مثل هذه اللقاءات حينها.. طبعاً في ذلك الوقت لم يكن الإعلام الفضائي قد ظهر، ولا الإنترنت وخدماته من «فيسبوك» وخلافه، بل وحتّى لا وجود للطباعة الإلكترونية، فكان بعضنا يجيد الطباعة على الآلة الكاتبة، ومعظمنا يعتمد على خط يده.. وكانت وسيلتنا في إرسال موادنا الصحفية للنشر إمّا بواسطة البريد العادي أو «الفاكس».. وما يميّز تلك الحقبة هو انتشار المطبوعات العربية من صُحف ومجلات أسبوعية ودوريات ثقافية وفكرية شهرية كانت تصدر بانتظام في العديد من العواصم العربية أهمها بيروت والقاهرة ودمشق والكويت وبغداد وطرابلس وتونس والمغرب، وفي بلاد المهجر كنيقوسيا ولندن وباريس.

في عقدي سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي كانت اللقاءات الثقافية نادرة سوى من خلال دعوات خاصة للمشاركة، أو من خلال فرصة أن تكون ضمن وفد اتحاد الأدباء والكُتّاب، وهذه تعتمد على العلاقة الشخصية بأمانته أو دعم جهة متنفّذة في الدولة.. لكن التواصل الأهم برأيي كان من خلال النشر المُشترك في المجلّات الثقافية المرموقة الرائجة في ذلك الوقت، مثل مجلّة «الآداب» اللبنانية، ومجلّتي «أقلام» و«الطليعة» العراقيتيْن، ومجلّتي «الكاتب العربي» و«الموقف الأدبي» السوريتيْن، ومجلّة «فكر» الكويتية، ومجلّة «أدب ونقد» المصرية، ومجلّتي «الفصول الأربعة» و«الثقافة العربية» الليبيتيْن، ومجلّة «الحياة الثقافية» التونسية، ومجلّة «مناهل» المغربية، ومجلّة «الدوحة» القطرية، إضافة إلى مجلّة «الكرمل» التي كان يصدرها الشاعر «محمود درويش» في نيقوسيا، ومجلّة «مواقف» التي كان يصدرها الشاعر «أدونيس» في باريس، ومجلّة «الاغتراب الأدبي» التي كان يصدرها الشاعر «صلاح نيازي» في لندن.. لتنظم بعد عقدٍ من الزمن مجلّتي «نزوى» العُمانية بتحرير الشاعر والكاتب «سيف الرحبي» و«الناقد» بتحرير الكاتب الصحفي اللبناني «رياض نجيب الريّس».

أتت أهمية تلك المطبوعات في كونها وسيلة اللقاء الثقافي المُمكنة التي حقّقت التواصل المعرفي بين مختلف المبدعين والمفكّرين والمثقّفين العرب، بمشرقه ومغربه ومَهاجره، وهي الباب العريض الذي انتشر من خلاله معظم أولئك المثقّفين الكِبار، مّا جعل التواصل الشخصي بينهم عاملاً مهماً في التقاء الآراء الفكرية وبوصلة قياس للتأثيرات الثقافية داخل جغرافيّات معرفية معنيّة بهُويّاتها لا تنقصُها سوى «الإدارة الثقافية» التي أهملتها السياسات ونالت منها تداعيات الحروب والأيديولوجيّات!