Atwasat

بيع الهلع في سوق النبوءات

سالم العوكلي الثلاثاء 11 يونيو 2024, 02:32 مساء
سالم العوكلي

منذ أن تفكك الاتحاد السوفياتي، وسقط جدار برلين، وانتهت ما تسمى الحرب الباردة، بدأ البعض من سياسيي ومفكري الغرب الذين لا تستقيم الحياة بالنسبة لهم دون أعداء، يتنبأون بالعدو القادم بعد الشيوعية، وذهبت التنبؤات إلى أن الإسلام عمومًا، والإسلام الراديكالي خاصةً، سيكون هو التحدي المقبل للغرب عمومًا، ولأمريكا التي تعتبر نفسها محور الخير ومهمتها أن تواجه الشرور فوق الأرض كما تحاول أن تقنعنا بعض الأفلام الهوليودية التي تصنع أبطالًا خارقين في مواجهة كائنات متوحشة وشريرة قادمة من كوكب آخر، لكن هذه الكائنات ستأتي في النهاية من الأرض حيث ما عداهم بشرٌ متوحشون قادمون من كوكب آخر، وطالما هزم (الشر) عندما كانت تمثله شيوعية الاتحاد السوفياتي.

فإن الإسلام الراديكالي هو الابتكار المتوقع لاستمرار الصراع الذي من شأنه الحفاظ على حيوية ولياقة القوى المهيمنة، أو النبوءة القادمة التي ستحقق مع الزمن نفسها، وحين تُدرج النبوءة ضمن استراتيجيات هذه القوى ستتحقق وتصبح واقعًا تاريخيًّا فوق الأرض لأن مستقبل الهيمنة الغربية مرتبط بها.

الغرب هو من جسَّد هذه النبوءة، وصنع ودعم جماعات إسلامية راديكالية مهمتها مواجهة المد الشيوعي، وكان من خلالها يحاول أن يضرب عصفورين بحجر، فمن ناحية ستوظف لمحاربة الشيوعية على الأرض وإنهاكها (حرب أفغانستان)، ومن ناحية أخرى ستكون الاحتياطي الاستراتيجي لما يسميه زيجمونت باومان، في كتابه: غرباء على بابنا «بيع الهلع الأمني» الذي تجسد أخيرًا في ظاهرة الإسلاموفوبيا.

وتسويق هذا الهلع الجديد بدأ منذ العقد الأخير من القرن الماضي، مع انهيار جدار برلين، لتنتشر الجدران على حدود العالم الديمقراطي فيما بعد مشفوعة بهذا الهلع، وكي تحقق النبوءة نفسها عمليًّا كان لابد من أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي ما زال الغموض يلفها، حين اخترق أقل من عشرة أشخاص لا يحملون سوى سكاكين قَطْعِ الزبدة الجدارَ الأمني والاستخباراتي الأقوى في العالم في الولايات المتحدة، لكن بداية القرن كانت ضرورية لأن يتحول هذا الهلع المفترض إلى حالة ذعر عالمية تنقلها تلفزيونات العالم مباشرة وفي مشهد لم تذهب إليه سابقًا سوى السينما الديستوبية التي كانت تتخيل هجومًا على الكوكب من كائنات الفضاء المتوحشة.

النبوءة التي تحقق نفسها (Self-fulfilling prophecy) أو كما يطلق عليها «النبوءة ذاتية التحقق» حيث تؤدي معتقدات الشخص أو توقعات الشخص حول الموقف أو الحدث أو شخص آخر إلى سلوكيات تجعل تلك المعتقدات أو التوقعات تتحقق. وعرّفها مبتكر المفهوم، عالم الاجتماع الأمريكي، روبرت كي ميرتون، كالتالي: «إن النبوءة ذاتية التحقق هي أولًا تعريف خاطئ للوضع الذي يستحضر سلوكًا جديدًا يجعل من المفهوم الزائف الأصلي حقيقة.

هذه الصلاحية الخادعة للنبوءة التي تحقق ذاتها لها سياقٌ خاطئ. سيوثّق حامل النبوءة المسار الفعلي للأحداث كدليل على أنه كان على حق منذ البداية».

وبعبارةٍ أخرى، فإن النبوءة الإيجابية أو السلبية أو الاعتقاد القوي أو الوهم قد تؤثر بشكلٍ كبير على الناس حتى تحقق ردودُ أفعالهم النبوءةَ التي كانت في يوم من الأيام كاذبة، ويضرب ميرتون مثالًا عن أحد البنوك الذي يحدث به خطأٌ ما أو شائعة إفلاس، فيبدأ العملاء بسحب أموالهم بالتدريج ما يؤدي فعلًا إلى إفلاس البنك.

في مسرحية جالو التي كتبها منصور بوشناف وأخرجها محمد العلاقي، وعُرضت في طرابلس العام 1997، أتذكر حالة الهلع التي أثارها البرّاح عن طوفان قادم من التصحر سيغمر مملكة جالو حين كانت على شواطيء البحر حسب حكايات النيهوم، ويأمرهم بقلع الأشجار لبناء سفينة تنقذهم، وفي النهاية ما جعل نبوءة التصحر الكاذبة تصبح حقيقة واقعة على الأرض هو حملة قلع الناس المذعورين للشجر، وهو مثال مهم عن النبوءة ذاتية التحقق.

والأمر نفسه حين أخذ القذافي يحذر شعبه بأن قطار الموت قادم لا محالة، ويمكن للقاريء أن يتصور ما ترتب عن هذا التحذير من سلوكيات جعلت الموت على الباب من تكديس للسلاح وتجنيد للجميع وتحصين للساحل.. إلخ.وبالمثل حين حذر هو وابنه الليبيين في خطابيهما إبان اندلاع ثورة فبراير من مصير حتمي ينتظرهم إذا ما أصروا على رحيله، وأسمع اليوم الكثيرين الذين يقولون أو يعبرون حتى عن إعجابهم بذكاء قائدهم وتنبؤاته، وهي تقع في السياق السابق نفسه وإن من منظور مختلف، فهو من جهز لهذه النبوءة كي تتحقق عبر عمله طيلة أربعة عقود على تفريغ البلاد من المؤسسات ومن أي بديل دستوري آمن لحكمه وحكم أبنائه.

وصرف على هذا السيناريو ببذخ كي يشتغل ذاتيًّا بعده، والأمر كأن أخبيء في بيت أحدهم قنابل موقوتة، وأقول له لو طردتني من بيتك فسوف تحدث فيه انفجارات وينهار، وفي النهاية هذا ما سيحدث لو طردني لأني أعرف أين وضعت المفخخات، وأعرف طريقة تفجيرها عن بعد. وقد يعتبرني صاحب البيت قديسًا حين تتحقق نبوءتي.

وبعكس النبوءة ذاتية التحقق، ثمة ما يسمى «نبوءة ذاتية الفشل» أو هزيمة الذات ((Self-Destroying Prophecy وتسمى أيضًا معضلة النبي، وهي حالة تنبؤ تمنع حدوث المتوقع، وتحدث نتيجة لاتخاذ خطوات إجرائية وقائية أو ما يسمى بالتمرد على التنبؤ.

ولعل أهم أمثلتها ما كان يُتنبأ به في دول الربيع العربي بأن هذه الأنظمة ستستمر لعقود أخرى عبر توريث الأبناء الذي أصبح واقعًا ملموسًا تجاوبت معه الدول المؤثرة واستسلم له الداخل، غير أن ما حدث من تمرد غير متوقع على هذه الأنظمة جعل من هذه النبوءة ذاتية الفشل.

ومن أهم أمثلتها الشائعة ما يسمى «تأثير أوزبورن» وهو مصطلح يتعلق بما يحدث من تداعيات سلبية ـ دون قصد ـ حين تعلن شركة ما عن منتجاتها المستقبلية دون أن تلتزم بالتوقيت ما يسبب عزوفًا عن منتجاتها المتوفرة في السوق. واشتُّق هذا الاصطلاح من اسم شركة أوزبورن للحواسيب، حين تأخرت الشركة فترة أطول عن تنزيل نماذجها الجديدة المعلن عنها للسوق، وحدث أن أعلنت الشركة عن إفلاسها عام 1985 بسبب نقص السيولة.

والمثال المهم لنبوءة هزيمة الذات ما يسمى «نبوءة عام 2000»، حين أدى الهلع من فشل هائل سينتج عن تغير الزمن بحلول عام 2000 إلى اتخاذ إجراءات مكلفة عبر العالم لتجنب أخطاء خطيرة في التقويم. فالمبرمجون، من أجل تقليل كمية الذاكرة الحاسوبية قاموا باختزال تخزين السنوات إلى رقمين بدل أربعة (1999 إلى 99) لكن مع حلول العام 2000 ستستخدم البرمجة ذاتيًّا الرقمين (00) فتستجيب لها المدخلات على أساس عام 1900 ما سيؤدي إلى خلل كبير في نظم الميكنة التي تخص المؤسسات والأشخاص ومصالحهم، وبدأ ذعر عام 2000 ينتشر بين الجمهور، عندما أصبحت تنبؤات الشركات تشير إلى أن الضرر الناجم عن هذا الالتباس الحاسوبي سيكلف إصلاحه ما قد يصل إلى ما يفوق 500 مليار دولار، ودفع الهلع المترتب عن هذه النبوءة الناسَ إلى تخزين الطعام والماء والسلاح وشراء المولدات وسحب مبالغ مالية كبيرة تحسبًا لنهاية العالم القريبة الناجمة عن خطأ حاسوبي.

غير أنه نتيجة ما اتُّخِذ من إجراءات وقائية قام بها المبرمجون لم تحدث سوى أخطاء بسيطة عام 2000 ما جعل بيل كلينتون يصرح بأن ما حدث هو «التحدي الأول للقرن الحادي والعشرين الذي جرت مواجهته بنجاح».

كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) لفوكوياما يعد نموذجًا للنبوءة ذاتية الفشل، وكتاب (صدام الحضارات) لصامويل هنتجتون، نموذج للنبوءة ذاتية التحقق.

على مستوى تاريخنا الحديث في ليبيا فإن ما أثير من مخاوف تُنُبِّيء بها بعد سقوط النظام تحولت إلى يقين في اللاوعي الجمعي ما جعلهم يحققون هذه التنبؤات بالحروب الأهلية وأزمة النفط والانقسام.. إلخ، باعتبارها مكبوتات أو تداعيات لا يمنعها إلا نظام استبدادي، في الوقت الذي لم تتخذ فيه أي إجراءات وقائية نتيجة سيطرة الهلع أو المصير الحتمي على الخيال العام، بينما انتفاضة فبراير كانت تمردًا على تنبؤات سابقة بأن النظام أصبح أقوى بكثير، وأن التوريث قادم لا محالة حتى إن المقربين كانوا يجهزون لاحتفال أسطوري بالذكرى الخمسين لثورة الفاتح التي كانت ستحل بعد 8 سنوات.