Atwasat

التنظيمات السرية في الجيش الليبي 1952- 1969 (21)

سالم الكبتي الأربعاء 05 يونيو 2024, 01:38 مساء
سالم الكبتي

اقترب الوقت الموعود لنجاح تنظيم الضباط الأحرار. أغسطس اللهاب 1969 ينذر بحدوث شيء ما سيطرق الأبواب والأسماع في لحظة من الزمن. كان الليل أيضا في بنغازي يخبيء في جوفه المظلم أسرارا مكتومة ستطفو بعد حين قريب عبر الأفق. المقاهي. الأندية. الامتحانات في المدارس والجامعة انتهت. الصيف يتوكأ على عكازه ويقارب الرحيل ليقبل الخريف. الكثيرون من الشباب والعائلات يقضون إجازاتهم في الإسكندرية والقاهرة وأثينا.

التنظيم تحرك ونشط بسرعة منذ تشكيله. ظل رئيسه معمر القذافي يقول على الدوام أنه تشكل منذ عام 1959 هناك في سبها البعيدة بمجموعة من الطلبة حلموا صباحا ومساء بعبد الناصر ومجد الأمة واستعادة السليبة فلسطين. ومن خلال متابعته للأمور خارج معسكر قاريونس وداخله عرف جيدا تناقضات التنظيمات الأخرى السابقة. استفاد من ثغراتها وترددها.

اخترق بعضها عبر التعرف المباشر بأعضائها والوقوف على نواياهم المستترة والمعلنة. كان يسخر منهم ومارس معهم الخداع والحيل. عرف الضباط الكبار وكل الرتب من الدفعات التي سبقته في الكلية العسكرية وما تلاها. جمع عنهم المعلومات والتقى بالعديد منهم في مناسبات مختلفة وزارهم حتى في بيوتهم. ووضع في حسبانه المتوقع والمأمول من الاستفادة والجاهزية من بعضهم. كانت المعلومات هي هاجسه في كل الأوقات ومصدرا ثابتا لخطواته تلك الأيام ثم إلى وصوله السلطة. المعلومات عن كل شيء كانت هي زاده الذي يتحرك به ويمضي.

البلاد التي هي ليبيا كانت مفتوحة باتجاه كل الاحتمالات والتنظيم الصغار تحرك بقوة. أجل بقوة. اشتغل بهدوء ثم بقوة وسرعة والجميع كان يرصد حركاته دون أن يبدي أي تحرك من جهته حيالها. العقيد عبد العزيز الشلحي وصلته أخبار التنظيم المتنامي من مصادر موثوقة.

المخابرات العسكرية علمت بذلك. قوى البوليس والمباحث وأمن الدولة عرفت ولديها العلم الكامل بما يجري. مجلس الوزراء في أيامه الأخيرة استمع في إحدى جلساته بالبيضاء وبحضور كل الوزراء إلى تسجيلات موثقة أرسلت من جهات الأمن في طرابلس كانت تحوي مكالمات وأحاديث صريحة ومفتوحة دون أي ترميز أو تشفير بين أعضاء التنظيم وبالتحديد بين القذافي في معسكر قاريونس ورفيقه عبد السلام جلود في معسكر الفرناج بطرابلس. لم يتخذ المجلس أي قرار يذكر تحسبا لما سينشأ عن هذه المكالمات وربما رأى أن يعالج الأمر بحكمة وهدوء ضمانا لعدم تزعزع الثقة في الجيش بإرسال مجموعات من الضباط في دورات بالخارج.

ذات يوم تجاسر رئيس التنظيم رغم قيود الضبط والربط العسكري على مقابلة رئيس الوزراء في بيته مرتين. كان البيت شقة متواضعة قرب الإذاعة في بنغازي يقضي بها عطلته الأسبوعية عندما يعود من البيضاء. كان معه في المقابلتين عضوان من التنظيم على حده.. أولاهما عبد المنعم الهوني والثانية مصطفى الخروبي. استغل القذافي اللقب الذي يجمعه مع رئيس الوزراء الذي لم يكن له أي ارتباط قبلي أو عائلي يجمعه به.

مجرد اسم يعود لجده لوالده. كان استغل اللقاء للتقدم لخطبة إحدى بنات الرئيس من زوجته الأولى وشكا له من حالته ووضعه في الجيش وتأخير أقدميته بسبب عقوبة عسكرية طالته في فترة سابقة. الرئيس أشار عليه بأن ذلك ليس من اختصاصه وعليه الاتجاه إلى وزارة الدفاع أو رئاسة أركان الجيش، فيما طارت أحلام الخطوبة بعيدا في البحر المجاور للشقة قرب الإذاعة.

وفي اللقاء الثاني تجاسر أكثر وتحدث بما يتصل بوضع البلاد وغياب الملك. لم يجب الرئيس بأي شيء. لعل القذافي كان يطلق بالونة للاختبار. لعل ثمة من أشار عليه باستكشاف أعلى المرافق في الدولة وموقف رجالها.. ولعل.. ولعل أخرى.

خلال هذه المجريات حذر بعض المسؤولين في الأمن والمباحث من عاقبة هذه التحركات وانعكاسها. وبعضهم الآخر أغلق درجه على التقارير المتواصلة. قابل رئيس التنظيم بمفرده أو مع بعض أفراده العديد من الشخصيات المدنية الناشطة في بنغازي وطرابلس وغيرها لسبر أغوارها وتقييمها وتصنيفها.

وظلت لقاءات التنظيم مستمرة متى ما أتيح لها وقت مناسب. أنجزت تلك اللقاءات في قاريونس وكان بعض الذين تمت مفاتحتهم خارج الجيش يأتون إلى المعسكر ويتحدثون مع القذافي في حجرته باستمرار حول التغيير والثورة. لقاءات أخرى أنجزت قرب مصنع الاسمنت حيث مقبرة الهواري حاليا. وفي الأبيار وفي بئر الزعفران قرب سرت وفي خيمة والده في بوهادي وفي بيوت بعض أعضاء التنظيم. وفي المجمل الواضح أن هذا النشاط والتحرك لعسكريين في تنظيم سري داخل الجيش كان لا يهدأ بالمضي نحو هدفه ويعمل دون خوف واختلف بذلك اختلافا كبيرا عن التنظيمات الأخرى التي لم تتصف بهذا الاندفاع والجرأة إلى درجة التهور.

في الفترة الزمنية التي تمتد إلى يونيو 1969 تم ضم وإقناع العديد من الضباط فيما أبدى بعضهم ممن التحقوا بالتنظيم منذ بداياته في الكلية وبعد التخرج تغيرا في مواقفه واعتزم الانقطاع عن المواصلة بسبب كثرة التأجيلات وتأخير التنفيذ ورأوا أن ذلك يعطي فرصة للقضاء على التنظيم والقبض على الجميع وإيداعهم السجون أو الحكم بالإعدام. وفي يونيو 1967 فكر التنظيم كما سبق ذكره في اللجوء إلى العنف.

خطط للقيام بتفجيرات داخل بنغازي في معسكرات الجيش البريطاني. التقى القذافي وجلود مع مدنيين في طريق المطار. ناقشوا الفكرة بتوسع وقاربوا على التنفيذ. كانت الأوضاع مهيئة لتشجيع ومساندة هذا الفعل والبلد كانت أيضا في حالة غليان شديد ومع ذلك تم استبعاد الفكرة ولم تنجز بكل تفاصيلها توقعا لما سيترتب عنها. ومع الأيام أيضا استمر التنظيم في شخص رئيسه وبقية أفراده يكتشفون ويبحثون ولعل الكثيرين سخروا من هذا التحرك وأدركوا أنها قصص من الخيال والمستحيل ولن تحدث ثغرة في الجدار. لكنهم تأكدوا من ذلك وتعجبوا في لحظة متأخرة والقصة بعد النجاح تغيرت في معالمها كثيرا وشهدت روايات بعدة أشكال وتبدلت أدوارها وأدوار أصحابها.

كيف نجح التنظيم. هل بهذا الخداع. هل بمعرفة الواقع العسكري والاجتماعي في البلاد. هل بمعرفة وتقييم حالة مسؤولي الدولة على اختلافهم والتأكد من طول غياب الملك وأنه لن يعود وقدم استقالته. هل ثمة (لعبة) كبرى منذ البداية أو دخلت على الخطوط في مرحلة تالية. هل ثمة أسرار لم تكشف؟.

يقول عبد الوهاب الزنتاني القريب من التنظيم بطريقة أو بأخرى في كتابه الموسوم (ثورة الشعب الليبي.. مآثر وبطولات). طبع المجموعة الدولية للنشر والتوزيع. 2012. في الصفحة الثامنة عشر في إشارة إلى ما تحقق على سبيل المثال في إنجاز الجلاء في بداية التغيير الذي عزز من موقف القذافي وجعله في عيون الناس بطلا وطنيا وقوميا في ذلك الوقت.. أن ذلك وقع: (إما بشخصه - يقصد القذافي- أو بتخطيط من الغير) ولابد (من القول بأنه قد مارس اللعبة التي جعلته مقبولا لدى الليبيين أولا والعالم العربي ثانيا حيث استخدم بحنكة ما كان يطالب به كل ليبي) اقتباس بتصرف.

وفي كل الأحوال لم يكن واضحا لدى التنظيم الذي نجح أي مخطط أو رؤية للوضع المحلي بصورة خاصة. كان الحماس يتجه نحو تحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين بعد القضاء على (النظام الرجعي المتخلف).
والليل في أغسطس في بنغازي وليبيا كلها تختفي تحته أسرار. والبقعة الهادئة كما تصورها العالم تغلي فوق نار هادئة.. لكن الجمر يلتهب بحرارة ويتقد ويفور في سبتمبر رغم صمت الليالي وسكون الريح المقبلة من الجنوب.