Atwasat

حكاية البقرة وسكاكينها

جمعة بوكليب الأربعاء 22 مايو 2024, 12:01 مساء
جمعة بوكليب

ما يميِّز الحكايات عموماً، خلال تنقلاتها العديدة، عبر الأزمنة والبلدان، أنها عرضة لتدخلات وتحويرات الرواة. إذ كلما تعددت الروايات بان الاختلاف واضحاً. ولأن الرواة بشر مثلنا، بنفوس أمارة بالسوء، إلا من رحم ربي منهم، فإنهم عرضة لأمور كثيرة، منها أنهم أحياناً يتحولون طوعاً واختياراً إلى سلعة في سوق خاضعة للعرض والطلب. وأنهم كذلك عرضة لإغراءات السلطة وعرضة لتهديداتها في الوقت ذاته. ولا ننسى كذلك أنهم لديهم مصالح تتوجب حمايتها، وأفواه وبطون في انتظارهم لدى عودتهم إلى البيوت يتوجب ملؤها. ورغماً عن ذلك، تظل حكاية البقرة الساقطة والسكاكين الكثيرة المغروزة في جسمها متميزة عن غيرها، كونها حازت اتفاق الرواة حولها قديماً وحديثاً. وهو أمر نادر الحدوث. ربما لأنها بسيطة، وبلا تعقيدات وتتكرر كثيراً، ولهذا السبب لا تترك للرواة هامشاً للتدخل والتغيير والتحوير.

البقرة في الحكاية الشعبية المعروفة قد تكون بقرة حقيقية، من دم ولحم وشحم وعظام. وقد تكون مجازاً قُصدت به أشياء أخرى. والأمر، أولاً وأخيراً، يتوقف على السياق الذي يرد فيه المثل/ الحكاية.

وفي السياق الليبي الحالي، وحتى لا نوصف أو نتهم بالتجني، لا بد أولاً من الاعتراف أن أصحاب السكاكين لم يسقطوا من السماء فجأة. بل كانوا موجودين مترقبين في كل الزوايا حتى قبل فبراير 2011، وكانت سكاكينهم مشحوذة، وبأنصال حادة تبرق في ضوء الشمس، ومحمولة في الأيادي في انتظار لحظة سقوط البقرة. وحين جاءتهم اللحظة المنتظرة، انهالوا بقوة على الجسد المرمي على الأرض من كل الجهات، وتحت مختلف الرايات والشعارات والمسميات، ولم يتوقفوا بعد عن تقطيع لحمها.

في الأيام القليلة الماضية، نشرت جريدة الشرق الأوسط تقريراً حول جريمة ارتُكبت في مطار مصراتة، تتعلق بقيام مسؤولين أمنيين برتب كبيرة بالمشاركة في محاولة تهريب ما وزنه 26 طناً من سبائك الذهب.
التقرير يقول إن الجريمة حدثت في شهر ديسمبر 2023، وتسبب كشفها في وقف حركة الطيران بالمطار مؤقتاً، وإغلاق المنظومة الإلكترونية. وكشف مكتب النائب العام أن جهة التحقيق انتهت إلى قرار بحبس مدير عام مصلحة الجمارك، ورؤساء مكتب جمرك مطار مصراتة والمراجعة ولجنة التصدير المؤقت للذهب، وهم تآمروا جميعاً مع غيرهم على إخراج سبائك الذهب إلى تركيا. وانكشف الأمر بتسريب مكالمة تسجيل صوتي بين مسؤولين من جمارك مصراتة وضباط من قوة الأمن المشتركة بالمدينة.

ما يدعو المرء للتوقف أمام الخبر، ليس كمية وحجم الذهب المهرب، أو من تورطوا في محاولة تهريبه. ذلك أن نهب المال العام والتهريب بمختلف أنواعه سمة من سمات الواقع الليبي، وعلى أعلى المستويات. السؤال هو: لماذا اختار مكتب النائب العام هذا الوقت تحديداً للكشف عن الجريمة والجناة؟

قد يقول البعض إن التحقيقات استدعت ذلك، ولدى انتهائها لم يعد في الإمكان إخفاء الأمر. وهو قول منطقي جداً، ويتسق مع العقل والإجراءات العدلية المعروفة. إلا أنه يفضي بدوره إلى سؤال آخر: لماذا لم تقم النيابة بالكشف عن المتورطين في جرائم مماثلة؟ وعلى سبيل المثال، لماذا لم تقم الأجهزة العدلية بإصدار أوامر اعتقال ضد قادة أجهزة أمنية معروفين بتورطهم علنياً في تهريب البنزين المستورد والمدعوم من خزينة الدولة، سواء عبر الحدود البرية أم عن طريق البحر؟ ولماذا مثلاً لم نسمع حتى الآن عن صدور أحكام قضائية بحبس مسؤولين برتب كبيرة ثبت تورطهم في جرائم تتعلق بسرقة المال العام؟ وهل سيتم تسليم المتورطين في جريمة تهريب الذهب المعلنة مؤخراً إلى القضاء وإصدار أحكام بالحبس ضدهم؟

وما أعتقده شخصياً، هو أن مكتب النائب العام اضطر مجبراً للكشف عن جريمة تهريب سبائك الذهب، وكشف المتورطين فيها، بعد انتشار التسجيل الهاتفي المسرب في شبكة الإنترنت، ولم يعد ممكناً إخفاء الأمر، خوفاً من الغضب الشعبي. وأنه لو تم الكشف عنها، من دون ذلك التسريب الهاتفي، لبقي الأمر طي الكتمان، ولكان أُغلق الملف، وواصل المتورطون مهامهم الوظيفية.

والأهم من ذلك كله، هو أن لا أحد على علم بما يحدث في ليبيا منذ فبراير 2011 يراهن على أن المتهمين سينتهون في الحبس بحكم قضائي بالإدانة، كي لا يفضحوا من وراءهم من كبار المسؤولين. وأن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، هي أن الكشف عن الجريمة تم بهدف تهدئة الرأي العام لا غير.

وربما لهذا السبب، أو لغيره من الأسباب، يواصل الناس كالعادة، وفي مختلف الأزمان والبلدان، الاستماع إلى رواة منهم، معروفين ببراعتهم في الحكي، يحكون لهم عن سكاكين مشحوذة وبأنصال حادة انهالت بقسوة وجشع لا يوصف، على بقرة سقطت أمامهم مرمية على الأرض، ومن دون حاجة إلى إحداث تعديلات أو تحويرات ولو طفيفة، بغرض الإثارة.