Atwasat

وصفة عالمية للمتلازمة الليبية

سالم العوكلي الثلاثاء 15 أغسطس 2023, 08:21 مساء
سالم العوكلي

الجميع هنا وهناك، محليون وإقليميون، وما يسمى المجتمع الدولي، والمحللون، والمحرِّمون، والمتابعون وغير المتابعين، يرون جميعا أن حل المتلازمة الليبية الوحيد هو إقامة الانتخابات، وكل شيء مؤجل بعدها، ويظل المتحكمون في المشهد الليبي الآن، الذين بأيديهم إمكان إجراء الانتخابات، هم الوحيدون الذين ضدها بكل ما أوتوا من خبث، وفي الأجسام السياسية جميعها التي تدرك أن خروجها من المشهد تماما، وربما وجودها فيما بعد خلف القضبان، سيكون النتيجة الطبيعية لهذه الانتخابات إذا ما جرت ونجحت، وهذا التناقض ما يجعل من المرض الليبي متلازمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، خصوصا ونحن ندرك أن مظهر اللادولة يحكم هذا المجتمع منذ عقود، وأن الانتخابات فيض عن دولة وليس العكس.

على الرغم من ذلك، فإن حسم مسألة الشرعية في ليبيا ليس أمامه إلا عدة خيارات، كل واحد منها أصعب من الثاني: إما بالقوة عبر انقلاب عسكري، وهذا أمر ــ بقدر ما سيكون كارثة جديدة ــ بقدر ما هو مستحيل أمام وجود عدة أجسام مسلحة لا يمكن أن يفضي بها الصراع على السلطة إلا إلى حروب أهلية لن تتوقف. والخيار الثاني عبر تدخل قوى دولية تفرض سلطة، ويعترف بها المجتمع الدولي، وهذا ما فعله مندوبو الأمم المتحدة تباعا، ورأينا نتائجه الكارثية، وبالتالي لم يبق إلا خيار الانتخابات التي يرعاها المجتمع الدولي (مع تجربتين سابقتين أفرزتا أسوأ السلطات في تاريخ الديمقراطية في العوالم كلها، من العالم الأول إلى الثالث وما بعده).

فالديمقراطية لعبة لها قواعد، واللعبة لا تصح إلا باحترام قوانينها وقواعدها، فهي كأي لعبة تنافسية تتكون من جهاز تحكيمي ولاعبين في الملعب ومتفرجين، ولا بد أن يكون جميعهم ملما بقواعدها ومحترما لها. وما يحصل حتى الآن قبيل الشروع في الانتخابات الليبية يشبه لعب الشطرنج على رقعة ترابية ملساء من قِبل لاعبين لا يعرفون قواعد اللعبة، أو يعرفون قواعدها بمنأى عن فضائها الديمقراطي، أو كما يقول جاكوب هنتيكا: «إن المرء لا يتعلم الشطرنج بمجرد إتقان قواعدها»، وهذا ما يجعل الكلام غزيرا عن القاعدة الانتخابية، والاختلاف حيالها، وثمة كلام أكثر غزارة عن إمكان رفض نتائج هذه الانتخابات من بعض الأطراف إن لم تكن في مصلحتها، وفضيلة القبول بالنتائج هو ما يشير إليه هنتيكا في تفريقه بين معرفة قواعد اللعبة وبين التمرس فيها.

وكي لا استغرق في لعبة الشطرنج المعقدة وغير الشعبية لدينا، سأضرب مثلا بلعبة كرة القدم التي أُقيمت لها الأكاديميات، وأصبحت إحدى مجالات العالم الاقتصادية والسياسية والثقافية المهمة، ولم تعد مجرد لعبة للترفيه أو تزجية الوقت، وما يحدث لدينا حتى الآن يشبه لعب كرة القدم على أرض غير معشبة ولا مخططة، ودخول هدف في مرمى أحد الفرق يعني نزول الجمهور وإثارة الشغب والعنف، وتصبح المشاركة في هذه اللعبة حتى كمتفرج صعبة ما دام لا يستطيع الخاسر أن يهنئ الفائز بعد نهاية اللعب، وأن يمضي الجمهور مسالما دون أن يتخلى عن تأييد فريقه، ودون أن يحط من قدر الفريق الفائز بجدارة.

ولا أتحدث هنا عن متمرسين في لعبة الشطرنج أو غيرها، ولكن عن أشخاص مستوعبين قوانينها، وكل حديث عن تعثر الديمقراطية في مجتمعنا أو المجتمعات المشابهة يحال إلى كوننا لا خبرة لنا أو مازلنا في الصف الأول الابتدائي منها، أو غيرها من الحجج التي تبرر الإخفاق. لكن ما أتحدث عنه في حالتنا، أو حالة المجتمعات الشبيهة، ليس تمرسا في اللعبة، ولكن عن قيم أخلاقية شخصية من المفترض أن يتمتع بها الفرد في أي سباق تنافسي، لأن التعلم والخبرة سيأتيان حين نحترم قوانين اللعبة ونتمرن لها، ونحن على الطريق الصحيح، والروح الرياضية قيمة سامية لم تعد تتعلق بالرياضة فقط، ولكن بكل أنواع التنافس الشريف، وأصبحت مرادفا لقيم مثل التسامح والموضوعية واحترام الذات والآخر، وما يتمخض عنها من قيمٍ سامية تطرق أي مجال، فتجعله لعبة ممتعة ومفيدة: قبول النتائج، تهنئة الفائز، تحول الطرف الخاسر إلى معارض بناء، التسامح، كلها سمات أخلاقية تتعلق بقيم الفرد والمجموع، سواء كانت في لعبة مثل كرة القدم أو لعبة معقدة مثل الديمقراطية.

معظم ما يسمى الشعب، أو من يحق لهم الاقتراع، يقتصر لعبهم في وضع الأوراق في الصناديق، وكلٌ يشجع فريقه أو مرشحه بشكل سلمي، ولا يمنع ذلك من أن يقلل من شأن خصم مرشحه ما دام هذا التقليل يتعلق بمسائل موضوعية مرتبطة بالكفاءة والجدارة والمسؤولية.

أما اللاعبون في الواجهة فهم عادة القلة التي تصارع من أجل الوصول إلى السلطة، وهذا حق إنساني أصيل، فقط عليهم أن يلعبوا بمهارة وأخلاق وروح رياضية، وألا يفصلوا السلطة حين تتاح لهم عن المسؤولية، واحترام ميثاقهم الأخلاقي مع من أوصلوهم، واحترام القسم المهني والقاعدة الدستورية التي وصلوا عن طريقها إلى السلطة موقتا. كما تستلزم الديمقراطية أساسا، وهذه أيضا أمور تتعلق بسمات أخلاقية شخصية، ولا يمكن أن نحيلها فقط إلى الخبرة، فهي سمات إنسانية مهمة في مجال تقوده الخبرة، ومن الممكن أن نستعين بخبرات العالم في هذا المجال، لكن لا يمكن أن استورد قيما أخلاقية تجعل العملية الديمقراطية تنجح. ونحن نثق في مفوضية الانتخابات، وفي نزاهة قضائنا، وفي عقلية الكثير من الناخبين، لكن من يخيفنا هم اللاعبون أنفسهم، والمتعصبون لهم، خصوصا حين يكون السلاح منتشرا.

ثمة جهاز تحكيم في كرة القدم يشبه الجهاز القضائي في حالة الانتخابات، بل إن التحكيم أضيفت له تقنية حديثة (الفار) شبيهة بالاستئناف في المحاكم والطعون في أهلية اللاعب أو في النتائج، والتحكيم لديه عقوبات محددة لمخالفات منصوص عليها في القانون. لكن ثمة أعراف في كرة القدم لا يضبطها القانون، ولكن أخلاق اللاعب، من ضمنها إخراج الكرة في حالة إصابة لاعب خصم، وإذا لم يقم الخصم بهذا السلوك الأخلاقي، فليس لدى الحَكَم في القانون أي عقاب له، وربما أقصى ما يتعرض له من عقاب هو صفير الجمهور واستهجانهم.

إذن الحديث عن الجانب الأخلاقي الذي يعزز القانون مهم في الحياة السياسية مثلما هو مهم في أي لعبة نتفق على قواعدها، وهذا العرف الأخلاقي يظهر في شخص يوقع، على سبيل المثال، تعهدا بعدم الترشح للانتخابات، لأنه تقلد منصبا في الحكومة الانتقالية، وحين يخل بهذا التعهد، فإن الأمر يتعلق بموقف أخلاقي، حتى وإن لم يعاقبه القانون، وسوف يكون الاستهجان والصفير من الجمهور ملازما لوجوده في الملعب.

وأكرر، هي صفات أخلاقية ذاتية قد يتمتع بها الفرد في أي مجتمع وأي مكان وزمان، وفي مجملها تشكل روح الديمقراطية التي نتحدث عنها بشعور من النقص، أو بكوننا لسنا في مستواها.

حين اقترح الكاتب الليبي سعيد المحروق في الثمانينيات من القرن الماضي توصيف «العقل الكروي» كتعبير عن التعصب الأعمى، في سياق نقده الذاتي لتقييمه لكتابات خليفة التليسي، كان ينطلق من معايشته كرة القدم الليبية آنذاك، والتعصب الخالي من الروح الرياضية الذي يجعلك لا تستمتع بلعبة للخصم، حتى وإن كانت جميلة، مثل مشجعي البرازيل المتعصبين الذين فاتهم الاستمتاع بعبقرية مارادونا، لأنه لاعب من الفريق الخصم. ولتوضيح الصورة أكثر ضمن تطبيق هذا العقل على لعبة الديمقراطية الجديدة على ليبيا، أذكر أنه في ذلك الوقت كان من اللازم لأي فريق يلعب على أرضه أن يفوز بأي طريقة ممكنة، وإذا لم يفز كان الجمهور يدخل إلى الملعب، ليخرب اللعبة، وبعيني شاهدت لاعبين يقفزون من أسوار الملاعب، خوفا من الجمهور صاحب الأرض، والآن في لعبة الانتخابات مطلوب من كل مرشح أن يفوز على أرضه بأي شكل وبأي طريقة، وألا يفوز أي خصم خارج أرضه، وفي هذه الحالة الملعب هو الجهة أو الإقليم، والجمهور هم المتعصبون أو الميليشيات، والمعارك بعد المباريات قد تكون حروبا مسلحة.

هل تجاوزنا هذا العقل الكروي المتشنج؟ وهل يمكن أن ينعكس ذلك على الانتخابات مثلما انعكس على الطبقة السياسية طيلة هذا العقد، حيث تلاعب معظمهم بالجهوية، واللعب في ملاعبهم، كي يستمروا في المشهد، ويحصدوا نقاطا حتى وإن لعبوا بشكل سيء؟.

مجتمع يتمتع أغلبه بروح رياضية في أي لعبة تنافسية سوف يكون ناجحا في أي استحقاق ديمقراطي، لأن هذه الروح هي أساس أخلاقي للتنافس، وهي جوهر التحلي بالمسؤولية.
أما حين يدخل جمهور الطرف الخاسر، لتخريب المباراة أو تهديد الحكم أو ضرب الفائز، فعلينا لحظتها أن نعيد النظر في جدارتنا بالاستمتاع بأي لعبة كانت.