Atwasat

سيرة مصرية ليبية (2 - 2)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 11 يوليو 2023, 11:43 صباحا
أحمد الفيتوري

كما قال المثل الشعبي الليبي: «يا خاش بر مصر منك واجد»، كنت من أولئك الكثيرين، في «ميدان المنشية» بمدينة الأسكندرية، مراهقًا، مرهقًا مثل الكثيرين، من يبدون تائهين عن مكانهم، وأن النيل النداهة، لذا ينهبون العمر، ومن ذا ينهب بعضهم بعضًا، فنُهبتُ وصديقي، من قبل المضيف الجوي الليبي وممن تمكن من ذلك. وحين تنبهنا، كان ما تبقي من رأسمال الرحلة، القليل أصلاً، أقل من القليل، ولم يكن هدفنا الأسكندرية، ما بدأت لنا مدينة بنغازي لكن أكبر.

توجهنا إلى القاهرة، قاهرة البلاد المركزية، ما تدعى مصر عند المصريين، الذين جلهم يطمح إلى الهجرة إليها، من ذا عرفتها مدينة ضخمة، تتضخم في أيام وليس سنينا. في القاهرة نزلنا فندق «شهرزاد» في «العجوزة» المحاذي لمستشفاها الشهير عندنا، ثم زرنا حي «امبابة/ الكت كات»، حيث تقيم عائلة «محمد الشامي»، العامل صديق أبي، من حملنا أمانة ورسائل له ولزملائه.

تلك العائلة الكريمة، نبهتنا أن إقامتنا في الفندق مكلفة جدًا، وقد دعتنا بإصرار للإقامة عندها، حتى نتمكن من تأجير شقة مفروشة بثمن معقول، التي حصلنا عليها، لكن في حي «جسر السويس» شرق القاهرة، حيث وضع الغراب ضناه أو كما يقول المثل!. كرم «آل الشامي»، ثم أسرة رفيقه في العمل، من كانت ابنته الكبرى «منيرة» أب وأم عائلته ودليلنا وحامينا، مما جعل رفيقي يهيم بهم، ولا يريد الإقامة في شقة «جسر السويس»، فجعلنا ننتقل لشقة بقربهم، في حي «مدينة الإعلام»، حيث أسكن الآن وأنا أكتب هذه السيرة.

صديقي المغرم تركني أسوح في عوالمي، وهو يردد «سواح وأنا ماشي ليالي سواح»، الأغنية الرائجة حينها لمطربه المفضل حليم «عبد الحليم حافظ». هو غاص في أحلام مراهقته، فيما أنا أرهقت مراهقتي بالثقافة والفن. في الحي الجديد «مدينة الإعلام»، ترددت على المسارح وفرقة الفنون الشعبية بـ «مسرح البالون»، حيث نسجت صداقات مع شباب من الفرقة، الغريب لم يستهوني السيرك، ما هو مجانب لمقر الفرقة، وحتى اليوم، لم يجتحني الفضول لمشاهدة السيرك المصري، المعروف بسيرك «الحلو» وعائلته.

أصدقائي من شباب الفرقة من الجنسين، أخذوا في إعداد حفل برأس السنة القريب، وقد دعوني، فكرت في أن خير مكان للحفل شقتنا الواسعة والبهية، بدوري بعد مشاورتي صديقي إبراهيم دعوتهم لإقامة الحفل عندنا. كعادتي أغوص فيما أفعل، لذا غرقت في تحضير مفاجأة، بإعداد مشاركة ليبية في مائدة الحفل، عندئذ لم أنتبه للبرد القارص للقاهرة شتاءً، فكنت أطبخ، وأتحرك هنا وهناك، دون معونة تذكر من الصديق الكسول، بين البلكونة والمطبخ والشقة وحتى الشارع، بلباس خفيف «تي شرت وبنطلون» خفيف، وفي ليلة رأس السنة خارت قواي، حمّى ليلة رأس السنة أصابتني حتى الإغماء، ما أفقت منه بفضل إبرة الطبيب، من منعني من التحرك ومغادرة الفراش، وقد تمكنت من الإصرار على أن يحتفل الأصدقاء، وقد كنت كلما زارتني ذكرى أول رأس سنة لي في مصر، خطر ببالي، قول المتنبي في قصيدته «وصف الحمّى»:

أَقَمتُ بِأَرضِ مِصرَ فَلا وَرائـي ” ” تَخُبُّ بِـيَ المَطِـيُّ وَلا أَمامـي
وَمَلَّنِيَ الفِـراشُ وَكــــانَ جَنبـي ” ” يَمَـلُّ لِقـاءَهُ فـي كُـلِّ عــامِ
قَليــلٌ عائِـدي سَقِــــــمٌ فُــؤادي ” ” كَثيرٌ حاسِـدي صَعـبٌ مَرامـي
عَليـــــلُ الجِسـمِ مُمتَنِـعُ القِـيـامِ ” ” شَديدُ السُكرِ مِـن غَيـرِ المُـدامِ
وَزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَـيــــاءً ” ” فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ
بَذَلتُ لَها المَطـارِفَ وَالحَشايا ” ” فَعافَتهـا وَباتَـت فـي عِظامـي
يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسـي وَعَنهـا ” ” فَتوسِـعُـهُ بِـأَنـواعِ السِـقـامِ
إِذا مـــــا فارَقَتـنـي غَسَّلَتـنـي ” ” كَأَنّـا عاكِفـانِ عَلـى حَــرامِ
كَأَنَّ الصُبـحَ يَطرُدُهـا فَتَجـري ” ” مَدامِعُـهـا بِأَربَـعَـةٍ سِـجـامِ
أُراقِبُ وَقتَها مِـن غَيـرِ شَـوقٍ ” ” مُراقَبَـةَ المَشـوقِ المُستَـهـامِ
وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِـدقُ شَـرٌّ ” ” إِذا أَلقاكَ فـي الكُـرَبِ العِظـامِ
أَبِنتَ الدَهـرِ عِنـدي كُـلُّ بِنـتٍ ” ” فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِـنَ الزِحـامِ.