Atwasat

الواقعية الإيطالية والواقع الليبي

جمعة بوكليب الخميس 15 سبتمبر 2022, 04:43 مساء
جمعة بوكليب

القطط هذه الأيام تحظى بأهمية غير عادية في طرابلس. ولا أعرف سببا لذلك، ولا أعرف أيضاً إن صارت تحظى بنفس الاهتمام في مدن ليبية أخرى. فالطرابلسيون تاريخياً لا يحبون الكلاب، ويعدونها دينياً نجسة، لكنهم يتسامحون مع وجود القطط، رغم ما تسببه لهم من متاعب، وفي ذات الوقت لا يهتمون بها، ولا يولونها اهتماماً، بل ويعاملونها بازدراء، وتلك عادتهم في التعامل مع الكائنات التي يعجزون عن فهمها، ويسمونها ضالة، حتى وإن كانوا ابناءهم ومن لحمهم ودمهم. لكن تسامحهم، ماضياً وحاضراً، مع القطط يعود إلى أنها غير عدوانية، وكانت نافعة لهم في الماضي، حين كانوا فقراء ومعوزين، لأنها كانت تخلصهم من شرور الفئران والجرذان.

سعدُ القطط المؤسف في الماضي، تقوّى، في ما يبدو، مؤخراً، ومن دون علمي، وشهد نقلة نوعية ايجابية. إذ لأول مرّة تعقد في طرابلس مسابقة لاختيار أجمل قط أو قطة. وهي سابقة تاريخية في مدينة على خصومة مع الكائنات من ذوات الأربع. القطة الفائزة بالمسابقة اسمها لذيذة، ورأيت صورة لها منشورة في موقع صحيفة بوابة الوسط، وحمدت الله الذي أمدّ في عمري، لأعيش وأشهد واقعة تاريخية نادرة. وأعترف أن القطة المسماة لذيذة متميزة، ولها نظرات آسرة. وواضح من الصورة أنها بنت عز، وتعيش في بيت عز. وما عرفته عنها أنها مثلي غريبة، تعيش مع صاحبتها في أحد بلدان المهجر، وجاءت خصيصاً للمشاركة في المسابقة. وأنتهر الفرصة لأتقدم بأحر التهاني إلى القطة وصاحبتها على الفوز العظيم. وأتمنّى على الله أن يمدّ في عمري لأعيش وأشهد مسابقة لاختيار أجمل كلب. خاصة بعد أن امتلأت شوارع طرابلس بها في السنوات الأخيرة، حتى راينا بعضها يتسنم مناصب ورتبا عالية. ورأينا كُتّابا وروائيين ليبيين مرموقين يخصونها بالاهتمام. الكاتب الروائي منصور بوشناف أصدر رواية بعنوان "الكلب الذهبي"، والكاتب الشاب محمد النعاس، الفائز بجائزة، أو لعنة البوكر العظيمة (الوصف يتوقف على الضفة التي تقف عليها) أصدر مؤخرا مجموعة قصصية جديدة بعنوان "مكان لا تجوبه الكلاب." ولا أعتقد أنه يقصد بذلك طريق السكة. فمن طبيعة الكلاب أن تكون قريبة جدا من طرق السكك الحديدية في شتّى بقاع العالم. ومن المتوقع أن مسابقة اختيار أجمل قط/ قطة سوف تستحوذ على اهتمام بعض الكتاب، ونشهد صدور روايات أبطالها قطط. وما دعاني للحديث عن القطط، المحاضرة التي عقدت مساء السبت الماضي بمعهد الفنون للتقنيات الإعلامية، بطرابلس، حول سينما الواقعية الإيطالية، والمخرج فيديريكو فيلليني انموذجا، من خلال أول أفلامه الطريق (1954.) وما حدث هو أنني حرصت على حضور المحاضرة لأهمية الموضوع، ولمعرفتي بالمحاضر الدكتور نورالدين محمود سعيد. وما يمكن أن أستفيده مما يقدمه لنا من معلومات وتحليلات عن ذلك التيار المهم في تاريخ السينما عموما، والسينما الإيطالية خصوصا. ولم يخيب الدكتور سعيد ظنّي. كانت محاضرة قيّمة. إلا أن قطة من آلاف القطط التي تعيش في المدينة اختارت أن تفرض حضورها على المحاضر والمحاضرين ذلك المساء. القطة، على ما يبدو لي، انتهزت فرصة خلو المعهد من الطلاب والأساتذة في فترة العطلة الصيفية، وأقامت في ركن خفي من أركان كواليس المسرح الذي أقيمت فيه المحاضرة. ولم تبدُ للحاضرين إلا بعد الانتهاء من مشاهدة الشريط السينمائي وعودة الأضواء إلى الصالة. ويبدو أنها فوجئت بالحدث الثقافي، وكانت تظن المكان مهجوراً. إذ جرت العادة أن يكون فصل الخريف بداية للنشاطات الثقافية في المدينة. وجاءت المحاضرة فجأة، بغرض كسر الرتابة التي سببها ارتفاع حرارة الصيف والرطوبة الخانقة، والأوضاع المعاشية المزرية. القطة كانت تتحرك على الخشبة، جيئة وذهاباً، غير مبالية بالمحاضر ولا بالحاضرين. ثم، في ما بعد، وكأنها استقرت على رأي، رايناها تخرج من ركن المسرح الأيمن حاملة بين أسنانها قطيطة حديثة الولادة تموء مواء احتجاجيا، وتنقلها إلى الجهة اليسرى من المسرح، وراء الكواليس لضمان سلامتها. اللقطة القططية أثارت استغراب الحاضرين وضحكهم. لكن القطة واصلت مهمتها لا مبالية باستغرابنا أو دهشتنا أو ضحكنا. وكأن لسان حالها يقول مذكراً، من حقكم الاستمتاع بمشاهدة أول فيلم للمخرج فيلليني. لكن لا يجب على الواقعية السينمائية الإيطالية، رغم جمالياتها، أن تنسيكم تفاصيل الواقع الحياتي الليبي المزري على كافة الأوجه.