Atwasat

أهمية المصادر المحلية في تاريخنا (1)

سالم الكبتي الأربعاء 08 يونيو 2022, 10:15 صباحا
سالم الكبتي

التاريخ بأحداثه وتفاصيله حركة متدفقة. منهج ورؤية بعيدة، تلخصها – في النهاية – وثائق وأسانيد تضم في سطورها حقائق وتكشف عن أمور وموضوعات تتجدد مع البحث العلمي على الدوام، وتفتح أمام العيون أبواباً للاجتهاد والدراسة والتحليل وفقاً للظروف والعوامل التاريخية التي استوجبتها تلك الوثائق في مرحلة زمنية معينة. إن الوثائق إذا ما توافرت وأتيح لها الظهور، تظل مصدراً حقيقياً لكتابة التاريخ والبحث فيه، فلا تاريخ بلا وثائق ومن دون شواهد أو أدلة مؤكدة.

منذ زمن ليس بالبعيد، وحتى الآن، ومع نشوء المدارس التاريخية الحديثة وتطورها لم يعد التاريخ حكايات وقصصا تروى، أو أساطير خارقة، أو مواقف ساخرة يُتندر بها. التاريخ صار ذاكرة حية للشعوب، ومادة علمية غزيرة تحتاج في التعامل معها إلى أمانة متناهية لا يتقنها سوى المؤرخين والباحثين المخلصين.

(الماشيات يورنا الجايات) و (اللي ما عنده قديم ما عنده جديد) مثلان عاميان يكاد يرددهما كثير من الناس في بلادنا كل يوم في شغف بالماضي وإسقاط على الحاضر، والمستقبل أيضاً، يعطيان – في واقع الأمر ومن منظور الموروث الشعبي – تعريفاً شاملاً ومختصراً للتاريخ ووقائعه، ويشيران بجلاء إلى أهمية الوعي به وبأن من فاته قديمه تاه.

المصادر المحلية والتاريخ :
وما دام (التاريخ والوثيقة) لا ينفصلان، ويلتقيان في نقطة واحدة، هي التاريخ نفسه، فإن (المصادر المحلية) بما تحويه من وثائق تظل ذوات أهمية عالية القدر لمن يهمه، على سبيل المثال، الاشتغال أو – الانشغال – بموضوعات الـتـاريـخ اللـيـبـي الحديث والمعاصر، وقد نهض – بلا شك – العديد من المهتمين لدينا، وكذلك بعض المؤسسات العلمية (1) بهذا الجهد الشاق والكبير (جمعاً وتحقيقاً ونشراً).

تتمثل هذه المصادر المهمة، في جزء واسع منها، في وجود العديد من الوثائق والتقييدات التي مازال أغلبها مجهولاً حبيس الإهمال أو قابعاً لدى الخاصة، وهي تبقى في حاجة ملحة ومستمرة إلى مزيد من الجهد والتضافر للبحث في المظان المختلفة على امتداد الوطن (الأسر والعـوائـل – والمكـتـبات الخـاصة – وغــيرها)، والوصول إلى الإقـناع بالكشف والإبانة عنها، خاصةً بـعـد انـقـضـاء فـترات طويـلة عـلـيـها وغــيـاب رمـوزها أو شـهـودهـا، إلى القدر الذي تسمح الظـروف باسـتـخـدامـها في إطار علمي، خاصةً مجموعات الوثائق المتعلقة بزمن الاحتلال الإيطالي ومقاومته (1911-1931).

إن عدم توفر هذه المصادر وإتاحتها بالقدر المطلوب، عمّق الإحساس عند الكثير من الباحثين بوجود بعض الثغرات في الكتابة التاريخية وبات أغلبهم يظنُ - وله عذر إلى حد معقول - انعدام تلك الوثائق والأسانيد المحلية من الأساس حتى يمكن التعويل عليها، واعتمدوا على الروايات الشفوية التي يشوب بعضها المبالغة والتهويل أو النسيان، رغم أهميتها أيضاً، وأهمية أصحابها المعاصرين للأحداث والوقائع وما تناقلوه في إطارها عن ثقاتِ آخرين، ولم يقفوا عليه بأنفسهم.

وقد تأكد لدى البحاثة بأن الذين أسهموا في صنع تلك الأحداث والظروف لم يتركوا (شيئاً مادياً موثقاً وملموساً) في غالب الأحيان يمكن الركون إليه في التحقيق أو المقارنة بوثائق أخرى أو روايات شفهية تتوخى الصدق والتجرد، وأرجعوا أسبابه إلى تفشي الأمية، وقلة مصادر الثقافة والمعرفة، وانعدام وسائل الإعلام، وتباعد مناطق البلاد وعزلتها وقت الاحتلال وندرة الأنظمة الإدارية، فاتجه البحث تأسيساً على هذا المفهوم في المصادر الأجنبية وتقصي شؤونها، وتم الاعتماد عليها في الدراسة والكتابة.

وهي إجمالاً – إلا فيما ندر – تمثل وجهة نظر واحدة وتغيب فيها رؤية ورأي الطرف الآخر، وهو الأهم، الجانب المحلي، مما يفتح مجالاً للتعامل معها بحذر – رغم أهميتها أيضاً – ونتيجةً لما قد يلحق بعضها من تشويش وضبابية،(2) وأُهمل بذلك – وعن حسن نية ربما – الاعـتماد على (المحـلي) المؤثـر والفـاعل وصاحب الدور الأبـرز في الفـترة ذاتها، وعلى هـذا أضحت المكتبة التاريخية الليبية في ركن منها تتعطش إلى حد كبير إلى مصادر التوثيق المحلية، التي طفق الإهمال يلازمها أحياناً كثيرة، إيثاراً للسلامة والبعد عن الحساسيات، والخوض في المناطق الملغمة، رغم مرور الزمن الطويل الذي يعدها ملكاً للتاريخ وذمته !

الشعـر الشـعـبي :
لقد ترسخ لدى المشتغلين أيضاً بالموضوع التاريخي الليبي اعتقاد بأن بعض قادة حركة الجهاد أو ممن لعبوا أدواراً إبانها مختلفة ومتباينة – إيجاباً أو سلباً – لم يكن لديهم اهتمام بالتوثيق والتدوين المباشر، بعكس العسكريين أو الساسة أو المعاصرين من الأجانب والعرب الذين تركوا مذكراتهم وانطباعاتهم، وصدر بعضها في طبعات عديدة، وظلت مرجعاً يبين معايشتهم للأحداث والظروف، واعتبر هنا في جانب موازٍ (الشعر الشعبي) الذي نظم في تلك الفترة.

إضافةً بالطبع إلى الرواية الشفوية، مصدراً لتاريخنا، لأن أغلب ناظمي ذلك الشعر اقتربوا كثيراً من وقائع التاريخ الليبي، وحضروا المعارك ووقعوا في أسر النفي والإبعاد، ثم الهجرة، وحُشدوا في المسيجات والمعتقلات الرهيبة: (العقيلة – المقرون – سلوق – البريقة.. وغيرها) .

وسوى ذلك من صور المعاناة والآلام، وذلك صحيح في مجمله، فلا أحد – والحال هكذا – يستطيع الضرب صفحاً عنهما أو تجاهلهما كلية في غياب (المصدر الذي يدون ويوثق). ففي الشعر والرواية كثير من الصدق(3) مع ملاحظة بُعد الفترة الزمنية والاعتماد على الذاكرة واختلاط الموضوعات والأحداث بحكم التشابه، وظروف السن والعمر للرواة والشهود.

 فيما كانت في الواقع أدوار ومعسكرات المجاهدين تتنظم في إدارة جيدة وتوثق المراسلات والحوادث اليومية، وكان أيضاً لكل واحد من قادة الجهاد – وفقاً لثقافتهم ومعارفهم – خاصةً في السنوات المبكرة من وقوع الغزو، وفي مختلف المناطق، قريبة وبعيدة (أرشيف) خاص، إن صح التعبير يشمل مراسلاته ويومياته وتعليقاته وتهميشاته على ما يصله من أوراق ومستندات ومذكراته أيضاً،(4) التي أهملت أو ضاعت فلم تنشر لاحقاً، ليتصل بها الدارسون والباحثون وأجيال الوطن الجديدة تحسساً لها بالانتماء إلى تاريخ الوطن.

وثائق مهمة:
مع مرور الوقت واستمرار البحث والعثور على بعض الوثائق التي تشكل قطعة من تاريخ الوطن وجهاده ضد المحتل، وتتكفل بتغطية فترات حاسمة منه وتسد العديد من (الثغرات) وتسجل بدقة كل اللحظات والحوادث التاريخية أولاً بأول، تتضح أهمية هذه الوثائق والدور الذي يمكن أن تقوم به، ويعجب المتابع للوثائق، رغم ضياع وفقدان العديد منها، لعناصر تتسم بها منذ الوهلة الأولى لعل في مقدمتها: حِسن الإدارة وشعور قادة المجاهدين بالمسؤولية، ورؤيتهم للتاريخ آنئذ، واستشرافهم للمستقبل، وتنامي الوعي الوطني في ظروف صعبة مع قلة الإمكانيات وكبر مساحة الوطن وتباعد أطرافه.

وهذه الوثائق التي طالها الضياع بحكم التنقل والهجرة أو المصادرة أو الغارات على المـدن والأرياف والمنتجعات والبوادي، ثم ظلت حبيسة البيوت في غرف مهملة أو صناديق عتيقة من دون مراعاة لشروط الحفظ أو التنظيم أو الاعتناء، استثناء من بعض الحالات (5) وتعرضها المستمر للعوامل الضارة (الرطوبة والحرارة والحشرات وقلة التهوية والتمزق وغياب الصيانة والترميم .. وغيرها).

هذه الوثائق قطع نادرة ومهمة من التاريخ الوطني وما يتعلق بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وتثير قضايا وموضوعات نحتاجها في كتابة تاريخنا، وامتازت بعدم إغفال الواقع اليومي المعاش وبإلقائها الضوء على المجهول من حياتنا الوطنية، وهي في الغالب وثائق حقيقية، إما بخط أيدي أصحابها أو عن طريق الإملاء أو النسخ والنقل منها أيضاً، وتدلنا بأمثلتها المختلفة على تنوع الموضوعات ووفرة المعلومات، ومتابعة الشؤون بلا توقف.

وهي تتوزع أيضاً ما بين المراسلات والمكاتبات المباشرة بين قادة الجهاد ورفاقهم أو مرؤوسيهم، أو من يكلفون بمهام منهم، والردود المقتضبة المفتوحة و (المشفرة) أحياناً، والجداول الاقتصادية والمالية، وبيانات الرسوم والجمارك والزكاة وتجميع الأعشار، والقيود المالية، وتمام الأسلحة والوسائط الحربية والمعدات والذخائر، والغنائم وتحركات العدو ووسائل مراقبته ومتابعته، وأحوال الأسرى وقوائم الشهداء، وتقارير وأخبار متواصلة عن سير المعارك وزمانها ومكانها، وطلب المساعدات والنجدات، وبيانات كثيرة عن الدواب المستعملة والأوامر والتعليمات ونظام البريد ومجالس الدور أو المعسكر.. وغير ذلك.

إن (أرشيف) حركة الجهاد موجود في كل هذه الوثائق التي لا تغفل عن ذكر شيء يتصل بالجهاد وأحوال المجاهدين في كل المناطق من ليبيا، وهو شيء رائع يدلنا على أنه كان هناك تنظيم عالٍ في إدارة معسكرات الجهاد، ويدل أيضاً على حرص ودقة من وكلوا بهذه المهام الدقيقة، وتعد شاهداً رئيسياً على حركة المقاومة الوطنية ضد العدو منذ وقوع الاحتلال، وتدلنا أيضاً على وجود تنسيق واضح وكامل بين القوى الوطنية الفاعلة في المناطق كافةً وبلا استثناء، خاصةً في العقد الأول من القرن العشرين،(6) الذي شهد انطلاقة تلك المعسكرات وتأسيس المحلات والأدوار، واستمرار المقاومة بضراوة عقب انسحاب الحاميات التركية من ليبيا بعد صلح لوزان سنة 1912.

إن هذا (الشيء الرائع) يحسب للحركة الوطنية غداة الغزو بتجاوز قادتها للمصالح الفردية والاعتبارات الجهوية الضيقة، وتساميها عن الصراعات والاحتكاكات نظراً إلى أن (العدو واحد)، ويشعر المرء بالأسف الشديد، وهذه من طبيعة الحياة، عندما تلاشت الروح في ما بعد وذهبت بعض ريحها أمام عواصف إغراءات العدو، واختراقه الصفوف.

إن المصادر والوثائق المحلية في هذه الفترة المهمة لا تقل أهمية وتأثيراً عن غيرها الأجنبية، بل ربما تظل في الصدارة من الناحية الوطنية والعلمية والتوثيقية، كانت هذه المصادر قريبة من وهج النار ورائحة البارود، ومعاناة المجاهدين وعزمهم على القتال والمقاومة، ورفضهم المساومات والإغراءات، وانطلقت بقوة من التراب وغمرتها رائحة الأرض وأشجار الغابات والذرى والصخور، ولم تُكتب أو تعد في المكاتب الأنيقة أو القاعات الفارهة.

الهوامش :
(1) من أمثلة ذلك: الجامعة الليبية في بنغازي، ومكتبتها المركزية، ومركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية (المحفوظات التاريخية الآن).

(2) يلاحظ أن أغلب ما كتب عن سير المعارك الحربية التي خاضها الاحتلال الإيطالي في ليبيا تمثل وجهة نظر قادتها أو أنجز طبقاً للبلاغات الميدانية التي حصل فيها خلط كبير وإغفال للحقائق واعتمدت في كثير من الأحيان على تغليب دور المحتل ورفع معنويات أفراد جنوده، رغم اعتراف وإشادة بعضها بضراوة المقاومة الوطنية مع شي من التحيز والتحامل لصالح العدو.

(3) رغـم (المـبالغة والتهـويـل) كـما أشـرت وإضفـاء الراوي البـطولة والفخـر عـلى نـفــسه أو أقـاربه أو قـبـيـلـتـه (دون غيرها!).. ورفاقه الذين حضروا معه واقعة أو موقفاً بعينه.. تلك الأيام.

(4) في هذا السياق يقع على سبيل المثال، ما دونه المجاهدون: أحمد الشريف، وأخوه صفي الدين الشريف السنوسي، ومحمد فكيني الذي اهتم بمدوناته مؤخراً المؤرخ الإيطالي (إنجيلو ديل بوكا) الذي عثر عليها في الأرشيفات الإيطالية وأصدرها في كتاب العام (2007).

(5) هناك كثير من الأشخاص والأسر على امتداد الوطن لديهم حس تاريخي رفيع بقيمة هذه الوثائق والمدونات التاريخية يحتفظون بها ويحرصون عليها حرصاً جيداً ويمدون يد المساعدة فيما يتعلق بها لكثير من الباحثين والمهتمين خدمةً لتاريخ البلاد.

(6) للدلالة على ذلك تقع، مثالاً لا حصراً، مراسلات المجاهد أحمد الشريف مع: سليمان الباروني، ومحمد سوف المحمودي، ومحمد فكيني، وأحمد سيف النصر، وأحمد السني، وأهالي سوكنه، وغدامس، والكفرة وغيرهم.