Atwasat

متاهات قديمة وجديدة

جمعة بوكليب الخميس 30 ديسمبر 2021, 11:29 صباحا
جمعة بوكليب

مُعجم المعاني الجامع، على الانترنت، يُفسر "المتاهة" بأنها "صحراء موضع التّيه - تعقيد يضلّ الفكر." ويقول أيضاً إن "التيه مفازة لا علامة فيها يُهتدى بها." وتيّه اسم، مصدره تاه. وجمعها متاهات. وهي عديدة وبأحجام مختلفة. منها السهل جداً ومنها الصعب. وثمة متاهات الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. هناك متاهات سياسية. وأخرى عائلية أو مهنية، أو اقتصادية،…إلخ وبعضها قبلية، أو جهوية، ومنها الشخصي جداً. وكثيرون منا جربوا الوقوع في شباكها، وبعضنا يتفنن في تصميمها. وتظل المتاهة سمة من سمات عالمنا الإنساني في مختلف المجتمعات.

المتاهاتُ الشخصية التي يواجهها المرء في حياته متنوعة، لكنها، على أي حال، ليست بأهمية وخطورة المتاهات الجماعية للأمم والشعوب قديماً وحديثاً. وعلى سبيل المثال، تُحدثنا الكتب المقدسة عن تيه بني إسرائيل في البرّية لمدة أربعين عاماً. وكتب التاريخ توثق لنا متاهات أمم وشعوب أخرى، بعضها تعرض للانقراض، وبعضها ظل تائهاً في براري التيه بلا أوطان. وما المتاهة الكردية، أو نظيرتها الفلسطينية عنا ببعيد.

من الممكن - لو شئنا - الحديث حتى عن متاهة ليبية. سياسية تحديداً. لم تبدأ في الربيع العربي، كما قد يعتقد البعض، بل، في رأيي- قبل ذلك بعقود. لكنها، ولظروف عديدة ومعروفة، ربما صارت أكثر وضوحاً بعد شهر فبراير 2011. وتسميتها بـ الليبية جاءت نتيجة لوقوعها في ليبيا أولاً، ولتورط الليبيين في فخاخها ثانياً. لكنها ليست، مائة بالمائة، ليبية التصميم والصنع.

من سمات المتاهة الليبية أنها غير ثابتة. بل، مثل فيروس كورونا، متحورة. وكل تحور أسوأ مما قبله. وفي حين تم التوصل إلى إنتاج عقاقير واقية من الإصابة بالفيروس الوبائي في فترة وجيزة زمنياً، ظلت المتاهة الليبية بدون علامات، وبلا مخارج. وأضحت البلاد صداعاً لدول الجيران، وفردوساً موعوداً للإرهاب.

وقد تكون العلامات موجودة، والمخارج متوفرة. لكن غياب القيادة الرشيدة، جعل من الصعوبة بمكان على من تولوا القيادة، وهم كثر، الانتباه إلى تلك العلامات، أو الحاجة إلى الوقوف عندها للتفكير والتدبر، لأن ذلك يكلفهم، بلا شك، خسارة كل ما جمعوه، خلال عقد التيه، من جاه ومال وسلطان.

آخر تلك العلامات التي بانت مؤخراً، أطلقوا عليها اسم الاستحقاق الانتخابي. وكان ممكناً، بشيء من توافق مبدئي، وبقليل من حسن النوايا، أن يقود نحو أول المخارج الصحيحة من المتاهة. لكننا لسنا هنا في حاجة إلى إعادة سرد لقصة مكررة، وحكاية معروفة أكثر من خرافة ام بسيسي. وما يهم حقاً هو أن فشل الحكومة في إنجاز ما جاءت لإنجازه، أفضى إلى خلق إشكالية أخرى، تتعلق بمشروعية بقائها واستمرارها.

الموعد البديل لإنجاز الاستحقاق الانتخابي ليس بعيداً زمنياً ( 24 يناير 2022) لكنه فعليا وواقعيا ليس قريباً. أو بالأحرى، ليس ممكن التحقق. وقد يتعرض للإلغاء بجرة قلم. لأن الأسباب التي دعت إلى التأجيل في المرة الأولى مازالت قائمة. وأنه لا توجد لدى من عهد إليهم بأمر الانتخابات نية لإعادة النظر فيها، ووضع الأمور في نصابها الصحيح كما يقولون، رغم حرص الكثيرين على التحذير والتنبيه..

من الممكن تشبيه الوقوع في شراك متاهة بـ ( اللوي في الفراغ). ففي الحالتين لا تتوفر فرصة للتحرك خطوة واحدة للأمام. وهذا ما جعل الأزمة الليبية تراوح في نفس المكان لسنوات طويلة.

الطرق التي تفضي إلى السلام، عادة، لا تبدو مرئية، ولا مرغوبة للباحثين عن الحرب. لكنها قد تكون واضحة لغيرهم، وخاصة ممن اكتشفوا من تجاربهم أن الحروب تدخل الأمم والشعوب في دوامة لا تنتهي، لأن كل حرب تلد أخرى. والسلام المرتجى في ليبيا طريقه واضحة، ليس للجميع، بل لمن اختاروا بوعي وإدراك، السير فيها قدماً، وعدم الالتفات إلى نباح وعواء حملات التخوين. وما عليهم سوى مواصلة السير، وفي الأثناء، السعي إلى محاولة استقطاب من يعتقدون أن لديهم نفس القناعات والاستعداد، لمرافقتهم. وهذا لا يعني مطلقاً أن طريقهم ستكون ممهدة أو مفروشة بالورود، وخالية من الذئاب. لكنها، وهذه حقيقة، تظل أقل ضرراً من طريق الحرب، وأكثر أملاً. والأهم، ليس فيها خاسرون.

المتاهات صممت لتضليل الأذهان، ووضعت بغرض خلق ومراكمة المصاعب. ولا أظن أن أحدا يجهل ذلك. لكن البعض نظراً لطول فترة إقامتهم وعيشهم داخل متاهات، يتعودون بالممارسة العيش في مسالكها، حتى تبدو الحياة طبيعية لهم. وينسون وجود حياة مختلفة خارجها. وهؤلاء قلة. ولكنهم أقلية رابحة، ولا تختلف عن المنشار: "طالع واكل نازل واكل."