Atwasat

حكاية قديمة جديدة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 01 يونيو 2021, 03:05 صباحا
أحمد الفيتوري

تشغلني الدنيا، بما لم أفعل أكثر بما أفعل، ورغم أنه من طبعي أن أنغمس في عملي عن كل شيء فإن ما أعطيه ظهري، ينهشني من لحم انشغالي.

ولدت في عائلة كبيرة ومتوسطة الحال، لذا عملت منذ الطفولة، كان أبي يفيقني من النوم بعد الفجر مباشرة، كي أساعده في كتابة الأرقام لدين زبائنه في الدكانة، حدث ذلك عقب دخولي السنة الأولى الابتدائية، ومقدرتي علي كتابة الأرقام، عقب تسجيل الأرقام، كان علي أن أذهب لمدرستي، ما أعود منها إلى الدكانة، كي أواصل مساعدة أبي.

هكذا لم يتح لي فراغ للعب. وعلي هذا سارت حياتي، لكن المفاجاة، أن الانشغال عن الناس بالناس، لا يكفي كي تتقي فرض وجودهم علي حياتك، وقد يكون الأمر علي العكس، فقد يحدث أن المجانبة تستدعي المعاكسة وتجلب النظر.

في بدء الشباب أخذتني الكتب، كتب الناس عن الناس، فصار معي ما صار مع جحا وقصة الحمار الشهيرة، التي أذكركم بها بالمفيد: كان لدى جحا حمار وحيد وولد وحيد، وكان إن ركب الحمارهو وحده عابه الناس، وإن أركب ولده وحده عابه الناس، وإن ركبا معا هو وولده الحمار، عابه الناس، وإن ترك الحمار، وسارا هو والولد على الأرجل عابه الناس، أخيرا حمل هو وولده الحمار على أكتافهما. هكذا طاله الشرر، وإن تسور عن النار، بالنفس والنفيس منها وهي الوحدة.

لعل أن لا شغل لك، مدعاة للانشغال بالغير، فالفاضي يقول الناس يصير قاضيا، وفي مجتمع مثلما بلادنا ليس لدى الناس ما يفعلونه، فهم جميعا في انتظار المطر، وشغلهم في موسم نتاجه وبقية العام دون شغل. والدولة الريعية مثلما دولتنا، تجني محصودها ذهبا أصفر من ذهب أسود، من باطن الأرض، التي جادت بمطرها الذهبي هذا. هكذا جني، تحصيل حاصل، يقوم به من بحاجة لهذا المعدن. البترول والدولة دولتنا، ليست بحاجة لغير جهد قابض الأرواح، لهذا الدولة كما الناس، لا شغل لها غير انتظار الآجال، لقبض الروح على شكل دولار.

لعل هذا من لزوم ما لا يلزم، فقد حول الدولار الدولة والناس، كما المطر، لحالة المنتظر، الكل في انتظار المهدي، فقوت الأجساد من هذا الانتظار، لهذا تنشغل الأرواح بالانتظار في ذاته.

من جهتي حين انشغلت عن الدولة، بالشغل الثقافي في صحفها، بعد أن أممت هذه الدولة حياتنا، كالتني هذه الدولة بتهمة مقدرة، ومطبوعة على قدر المرحلة، فمن ليس معها هو عدوها. آنذاك كانت تهمة العصر، كل من ليس مع الدولة متمرد عليها، وصورة هذا التمرد: الشيوعية، خاصة في سبعينيات القرن العشرين، حين كانت الشيوعية تحتضر. ولذا زجت بنا في حضنها الذي هو السجن، بعقوبة لا تزيد عن المؤبد، وفي السجن - كما في الحياة خارجه في البلاد - المكان يضيق بمن لا شغل له، لهذا كان السجن، محلا لدعاوي ومماحكات لا تنتهي.
كنت، كابن لعادة، منشغلا في ما تيسر من كتب، أو فيما لا يتيسر من كتابة، لكن الانشغال جلاب نظر ومخصب للكلام، وبذا ستكون مجالا، يغطيه كل كسول بتسفيه ما تفعل، وكل غضوب من حاله بتجريحك.

أصدرنا، ومن كان صنوي، مجلة وكتبا، ساعتها عدت من الأمور التي تجلب حنق السلطة، وعد عملنا تحرشا بأمن الجماعة السجينة، وتحريض لضغينة الحرس عليها، فيما بعد ستحلف الأيمانات الغلاظ، بأن هذا العمل الذي كان سببا للخوف، هو من نتاجهم وسيعد من مفاخرهم.
هكذا ستسجن بتهمة من دولة، لم تجد ما تفعل لناسها، ففعلت بناسها فعل الإقصاء، وافتعلت لنفسها أعداء خطرين، استبعدتهم من الحياة. هكذا تسجن مع مساجين لا حول لهم، وتسجن أيضا بقوة هذه الجماعة السجينة، الخائفة في السجن من السجن. هذا لأنه لكل سيء مستويات، كما لكل جميل، فالمقصى يقصي محيطه عنه، كأنه حين يضطهد غيره، يسترد نفسه من مضطهديه.

كنت في جريدة الأسبوع الثقافي، في طرابلس الغرب، مشغولا بالجريدة، وإصدار ملفات أسبوعية ثقافية،عما يحصل في البلاد، التي تتحول إلي الاشتراكية، الاشتراكية التي جرفنا سيلها كشيوعيين، الأعداء المفترضين لهكذا تحول، فقد تحولنا دون أن نعرف سببا، إلى يساريين مرضى وجب حجرهم. لقد تم تأميم البلاد وثروتها، لتكون في يد الشعب، الذي تحول إلى أمنا الغولة، لا يعجبه العجب وكنا العجب، لقد صارت حريتنا المزعومة، حجرا لحرية الشعب المأمولة.

وفي بلاد ضاقت بنفسها، كانت النفوس تضيق، على كل شيء بكل شيء، ومن نتاج هذا الضيق مقاضاة الناس، على ما لا يفعلونه. وبعد الخروج من سجن البلاد إلى البلاد، طالنا ضيق البلاد بنفسها، فمن الحجر الصحي، الذي عشت فيه سنوات عشر، بات علينا ملاقاة الناس، في حجر من حذر، فمرض كهذا يحتاج إلي نقاهة الدهر.
ومن عاش عادة العمر، أكمل الدهر وعادته لصيقه وتوأم روحه، عدت لسابق عهدي، منشغلا عن الناس بكتب الناس، وثقافتهم وفنونهم، لكن كما عدت لعادتي، كانت البلاد على عادتها ثابته، لا تتزحزح، معاداة للعقل ونتاج الفكر. وحرصا على أن لا يكون لأحد السبق، فليس ثمة سباق في حياة الانتظارهذه، فالمأمول حسن الختام، والختمة عند المهدوي، ما ليس لأحد السبق في انتظاره، فالموت طبيعة وليس تطبعا ممكنا.

لقد وجدنا أهلنا في طابور، لا حد له ولا وقت، الجميع يعزي، والجميع يتلقى العزاء، وفي دائرة لا أول ولا آخر لها، مركزها حالة انتظار، لا تنتظر أحدا، و لا عقيدة لها في حدوث شيء. وفي حال كهذا، تلقينا سيل السباب والشتم، على أي فعل، وتمت محاصرة أي تطلع، أحيانا ثمة تبرير، باعتبارنا في نقاهة، هي من لزوم ما يلزم.

بعد الخروج من السجن، عملت في مجلة (لا)، المجلة التي عدها كل أحد أنها ليست له، وعلى هذا فهي غير لازمة، وشغل من شغل بها كي تغلق، التي كما السفاح ينكره حتى أهله. وحين كانت (لا)، كان الجمع كالعادة، مشغولا بحياته عن حياته، منغمسا في قوت يومه عن يومه، لكن هذا المنشغل المغموس، لديه من الوقت زيادة مضطردة، تلزمه بشجب عمل من يعملون، ومرة ثانية عشت – كما عاش كل من يعمل - بين المطرقة والسندان، وكأن البلاد محل حدادة .

ما تقدم لخص مستقبلا مزدهرا، بالتهم والسباب، وخصب مفردات من الكلام البذيء، حتى يومنا هذا، بعد أن وكدت النفس على التحصن بالعزلة، جذبت العزلة المنتجة، الكثير من التهجم، ممن لا أعرف ومن أعرف، وهذا أمر لا أختص به.
وكثيرا ما كنت أعلق، أننا كما دفعنا ثمنا من أجل الحرية، فإن المرء يدفع أيضا ثمن ما تحقق منها، وما لم يتحقق...ِ