Atwasat

سرحان بين الغيط والبيت

عبد السلام الزغيبي الأربعاء 16 سبتمبر 2020, 10:36 صباحا
عبد السلام الزغيبي

في كثير مما نعيشه في واقعنا المعاصر، حكايات وقصص وأساطير وخرافات، تعبر عنا وعن أحوالنا وظروفنا التي نعيشها، وكانت طريقة سرد هذه حكايات مشوقة في أغلب الأحيان تسرح بمخيلتنا إلى عوالم غريبة نوشك أن نراها ونعيشها.

من هذه الحكايات، التي مازالت ملتصقة بنا، حينها كنا تلاميذ في المرحلة الابتدائية بمدرسة اللواحي في شارع يحمل نفس أسم المدرسة، وهي من أوائل المدارس التي نشأت في المدينة القديمة في وسط لبلاد في بنغازي، وكانت عبارة عن حوش عربي كبير به عدة حجرات "فصول" وحجرة الناظر وحجرة المدرسين، وكانت هناك صنابير مياه للشرب تصب في حوض مستطيل. ودورة مياه. ووسط حوش"فناء".. يجري فيه التلاميذ في الاستراحة بين الحصص.

في تلك المدرسة لم يكن هناك أي مكان متاح لممارسة نشاطات.. رياضية أو فنية "شأنها شأن باقي مدارس منطقتنا ذاك الوقت"، وهي الهوايات التي كانت تستهويني منذ الصغر..

في سنوات تلك المرحلة الجميلة من أعمارنا، كانت دروس المحادثة والقصص التي كنا نتلقاها في كتاب المطالعة من المنهج الدراسي المصري، والتي لا زلت أذكر بعضها مثل قصة "القرود وبائع الطرابيش" وهي ضمن القصص التي طالعها الفصل الدراسي الذي كُنت ضمن تلاميذه، والتى تتناول أحداثها القليلة قصة بائع طرابيش (متجول)؛ انتهزت مجموعة من القرود انشغاله بتسويق بضاعته لأحد المارة، فخطفت بعض طرابيشه من سلته التي يحمل في متنها بضاعته ـ من الطرابيش ـ وصعدت بها إلى شجرة كبيرة عالية.

وقصة العنزات الثلاثة والذئب، وقصة (سرحان بين الغيط والبيت)، وقد بلغ من تأثر جيلنا بمثل هذه القصة، أني ما زلت أتذكرها حتى الآن، كما أتذكر عنوانها بالضبط، والصورة اللطيفة المصاحبة لها، والتي يظهر فيها سرحان، التلميذ الصغير، وهو يحمل خروفا صغيرا ويضمه بذراعيه إلى صدره.

هذه القصص كنا نتخيل أحداثها ونحاكيها أثناء الدرس أو بعده وبمتعة كبيرة تثير الضحك من شخصية سرحان الذي يقع في مقالب كثيرة ومضحكة في رحلته من (البيت) إلى الغيط (الحقل)، وهي قصة تربوية عظيمة تدعو إلى التفكير والإبداع وتطفئ النمطية والغباء، ومفاد هذه القصة أن سرحان كان حرفيا في سلوكه غير مبدع ولا مفكر، فعندما أرسلت أمه معه بعض النقود لجدته حملها سرحان في يده فسقطت منه في الطريق وهو لا يدري، فعاد سرحان يبكي فقالت له أمه: لقد أخطأت يا سرحان بحملك النقود في يدك، كان عليك يا بني أن تضعها في جيبك، وعندما أرسلت معه كمية من الزبد لجدته تذكر نصيحة أمه السابقة، فوضع الزبد في جيبه، وأنصهر الزبد من الحرارة وحدث ما حدث، فرجع باكيا إلى أمه فقالت له: كان عليك يا سرحان أن تحمل الزبد في يدك، وبعد مدة أرسلت معه خروفا صغيرا لجدته، فتذكر آخر نصيحة لأمه فحمل الخروف بين يديه، فأنهكه التعب واتسخت ملابسه فقالت له جدته: كان عليك أن تربط الخروف في حبل وتجعله يسير خلفك، وعندما أرسلت معه دجاجة إلى جدته تذكر نصيحة جدته يوم الخروف، فربط الدجاجة من عنقها وجرها خلفه فاختنقت الدجاجة وماتت..

ربما يكون سرحان بسبب ضعف قواه العقلية، مثالا واضحا على ارتكاب عدد غير محدود من الحماقات، ومثال "سرحان" يلوح في ذهني كلما شاهدت أداء هؤلاء الذين تسلموا مقاليد الحكم في ليبيا، في السنوات الأخيرة، الذين تركوا الأمور العاجلة التي تحتاج لحسم، حتى وصلت بأدائهم السيء إلى مستوى الكارثة، وتركوا كذلك أمورا أخرى تحتاج الى رؤية وعدم تسرع، تجدهم يندفعون دون أي تفكير فتكون الكارثة الكبرى.
من المؤلم أن الارتباك وقصر النظر وعدم وضوح الرؤية، وفقدان الحكمة، كانت هي السمة السائدة من سمات القائمين على الحكم في ليبيا في السنوات العشر الأخيرة وما قبلها، حتى وصلت إلى أقصى درجات الحمق، التي وصفها الشاعر بقوله: "لكل داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ بهِ... إلاّ الحماقَةَ أَعيتْ من يُداويها"...