Atwasat

ديمقراطية أضيق من منصات التواصل

سالم العوكلي الثلاثاء 02 يونيو 2020, 05:29 صباحا
سالم العوكلي

فيما عدا أمريكا، وريثة المزاج الأوربي، فشلت تقريبا الديمقراطية في جميع الدول التي حاولت محاكاتها خارج أوروبا، مع تفاوت درجات الاستبداد في هذه الدول، والسبب أن الديمقراطية الأوربية بنيت على أساس فكري يتمحور حول العلمانية كبيئة مناسبة لنموها، وعلى قاعدة اقتصادية تتعلق بالعصر الصناعي ونهوض البرجوازية والطبقة الوسطى. غير أن ما شهده العقدان الأخيران من نقد حاد يوجه للنظام العالمي السائد كان ينبئ بأفول عصر الديمقراطية التقليدية والأسس التي تشكلت بناء عليها، وأهمها الأحزاب كعصب للجهاز الديمقراطي، حيث الأحزاب الكبرى تحولت إلى إقطاعيات سياسية تتوارث السلطة كأي نظام وراثي، وأصبحت لعبة في أيدي لوبيات الرأسمالية الكبرى التي تتحكم في الحملات الانتخابية وفي صناعة السلطة والقرار.

انشقاقات مستمرة في أحزاب تقليدية عريقة، وانقسامات اجتماعية حادة كما يحدث الآن في أمريكيا ترامب، وانتعاش جديد للأحزاب اليمينية والقيادات الشعبوية، ولعل ما يحدث الآن من صراع بين ترامب وموقع تويتر يؤكد هذا التفاوت الذي يحدث بين سلطات ديمقراطية تقليدية وبين عالم مقبل ينفتح على رؤى مختلفة لمسألة الحوكمة، وهو صراع يشكل امتدادا لبدايات تضايق حكومات العالم الديمقراطي من منصات التواصل الاجتماعي التي خرجت عن آليات التحكم، لأن الإعلام ووسائل التعبير التقليدية لها آليات تحكم غير مباشر وقوانين تنظم وتعاقب حتى في النظم الديمقراطية، وبدأت ذروة هذا التصادم بعد مساءلة مؤسس فيسبوك، مارك زوكربيرغ، في مجلس النواب الأمريكي، حيث كان الشاب الذي يرى جيدا أفق العالم الجديد المختلف يتنازل لضرورات آنية أمام شيوخ مازالوا متشبثين بالجوهر القديم للعقد الاجتماعي، وفي حِمى نظام قانوني تتآكل أطرافه، وكانت ابتسامته الهادئة تقول أن هذا العالم المتشبثين به مرتبط عمره بأعماركم، فثمة أجيال جديدة رضعت هذه الثقافة بأسنان لبنية وستكبر الفجوة بينهم وبين أوهامكم. لكن هذه المساءلة، وكل ما يطرح من نقد لمنصات التواصل الكبرى، أدى في النهاية إلى دفع مديري هذه المنصات لأن يمارسوا نوعا من الرقابة أو التدخل في المحتوى الذي ينشر لديهم، وهو تكتيك كانت الرغبة من ورائه أن يتحول أصحاب هذه المنصات إلى (ناشرين) يتدخلون في تحرير المحتوى ما يجعل قوانين النشر التقليدية تنطبق عليهم، وهذا ما أشار إليه النائب العام الأمريكي الذي كان واقفا بجانب ترامب في مؤتمره الصحفي المنعقد أثناء اتخاذه قرارا تنفيذيا يحجّم من حرية وحصانة هذه المنصات، وحدث الأمر بعد أن أرفق موقع تويتر إشارة (تشيك باك) مع تغريدة لترامب اعتبرها الموقع مضللة.

هل وقعت هذه المنصات في كمين السلطات السياسية حين بدأت تتدخل في المحتويات لديها لينسحب عليها ما ينطبق على الناشرين التقليديين من قوانين؟ أم أن ما تذهب إليه هذه المواقع هو أفق إنساني يحتم عليها أخلاقيا وليس قانونيا أن تراقب محتواها من أي تطفل يهدد القيم الإنسانية، كالعنصرية والتضليل والتحريض على الكراهية وتمجيد العنف وغيرها؟ا.

المسألة مازالت في بدايتها، والصراع مفتوح على كل الاحتمالات، لكن المؤكد أن لا شيء صمد أمام كل ما يمليه التقدم وتتابع المراحل. الواقع أن موقع الفيس بوك منذ بداية تأسيسه سمى المساحة المتاحة لنشر المحتوى (جدار)، وبهذا المعنى فإن الكتابة على هذه المنصة تشبه الكتابة على الجدران التي ارتبطت بحالات التمرد، لا قانون يحكمها ولا تمكن مراقبتها.

وهذه المعارك الدونكيشوتية التي تحارب طواحين العالم السيبراني لن تجلب سوى المزيد من السخرية، فموقع تويتر بعد تهديدات ترامب بيوم حجب تغريدة جديدة له تحت تهمة (تمجيد العنف) التي حث فيها قواته الأمنية على استخدام العنف مع المتظاهرين في ولاية مينيسوتا، وأخيلة ترامب الرجعية تجعله يتعامل مع هذه المنصة الهائلة مثلما يتعامل مع الصحافة التقليدية أو الحزب الديمقراطي المعارض، لكن تويتر ليس حزبا، بل فضاءا ديمقراطيا جديدا يُعد أعضاؤه بالمليارات من جميع أنحاء العالم ومن كل الشرائح، وهي المنصة التي أسهمت دون أن يقصد مالكوها في وصول ترامب إلى البيت الأبيض أكثر مما أسهم حزبه، وهذا ما يجعلنا نذهب إلى ما سبق ذكره من ديمقراطية ما بعد الأحزاب التي تتشكل داخل رحم هذه الثورة الرقمية الكبرى والتي تنقلنا إلى بردايم جديد فيما يخص السؤال السياسي. ولا يعني هذا نهاية الأحزاب، بل تضاؤل دورها، لأنها ستظل حاضرة مثل حضور مناجم الفحم الحجري في عصر الطاقة الأحفورية، أو مثل حضور النفط مستقبلا في عصر الطاقات البديلة، بمعنى لم تعد هذه الأحزاب الطاعنة في السن ــ والتي تحولت إلى إقطاعيات سياسية، وبعضها مسؤول عن الانسحاب من اتفاقيات المناخ أو الحد من أسلحة الدمار الشامل تحت ضغط اللوبيات الاقتصادية ــ لم تعد صديقة للبيئة بالمعنى المباشر حيث تقف في مواجهتها منظمات المجتمع المدني بقوة، ولم تعد صديقة للبيئة الرقمية الجديدة، حيث أشهر الأحزاب الديمقراطية تعمل على تضييق فضاء التعبير في منصات التواصل، والتي كانت وراء معظم الحشود المتمردة التي تظهر في شوارع وميادين العالم الديمقراطي أو غير الديمقراطي محتجة على النظام العالمي برمته الذي يحكم العالم ويتلاعب فيه 1% من سكان الأرض ببقيتهم. وهذا البقية الهائلة التي انتشلها الضوء المنعكس على وجوهها من الشاشات الصغيرة من ظلام طويل بدأت تنتظم في جماعات وتيارات مدنية ناقدة بحدة ومعارضة لا يمكن التحكم فيها أو رشوتها أو مقايضتها، وبدأت تتلمس أوجاعها وقادرة على النشر والنقد كل ساعة، وقادرة على الحشد خارج الأطر السياسية السابقة كالأحزاب والنقابات، وما رأيناه أخيرا في ثورات الربيع العربي أو ظاهرة الحشود المحتجة في كل القارات أنها كانت ترفض مشاركة الأحزاب في احتجاجاتها، أو تدبيج البيانات باسمها، ما ينبئ بإرهاص (ما بعد ديمقراطية الأحزاب) يمكن أن نربطه بسهولة بأطروحة ما بعد الحداثة التي فككت الهياكل الكبرى لصالح التفاصيل الصغيرة المؤثرة، وباعتبار أن الديمقراطية التقليدية ــ إحدى نتاجات الحداثة العظيمة التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة الجديدة وندين لها ــ اختنقت بالقوالب السياسية التي صنعتها، وبالحدود التي أصبحت تدور داخلها، بينما غريزة الإنسان المثابر في تطوره هي اختراق الحدود والأطر، وحتى الفراديس المشروطة.

ميزة ما بعد الحداثة كمنظومة نقدية للحداثة السابقة لها أنها قوضت مفهوم المركزية المحتكرة لتصدير الأفكار إلى العالم الذي تعتبره تابعا، وأحلت جمالية التجاور بديلا للتراتبية، وجعلت الهوامش بكل أنواعها أهم من المتون، وقوضت ثنائية التقدم والتخلف السائدة، ومكنت الخصائص الثقافية أن تنافس بقوة وسط الثقافات المهيمنة بعد حقب الاحتواء الاستعماري، وجاءت ثورة المعلومات كي تبني جسورها لهذه الرؤى النظرية، ثم جاءت الجائحة العولمية، كوفيد 19، لترفع الغطاء عن بؤس هذا العالم المبهرج الذي يختنق في دخان ألعابه النارية. بهذا المعنى وغيره متاح لنا أن نكون في قلب هذا العالم الجديد دون الاحتراق في خطر (حرق المراحل) لأن تأثير هذه الثورة الرقمية بدأ في ما يسمى العالم الثالث قبل أن يبدأ في العالم المتقدم، وحين يهدد ترامب بقفل منصات التواصل (التي مازال يعتقد أنها أمريكية وتخصه) فهو يهدد حرية التعبير في صحف يعد كتابها بالمليارات، ويهدد وسائل نشر المواطن العالمي في أفقر الأحياء، وهذا حسب ظني عالم جديد يبهج هامش الإنسانية بقدر ما يثير الفزع لدى السلطات بكل أنواعها.

حين صدرت قوانين أو قرارات جائرة من قبل حكومات ليبية بأنواعها لم تردعها أحزاب أو نقابات أو قوى معارضة، لكن الحملات التي شنها رواد الفيس بوك على هذا القرارات جعل مشرعيها يتراجعون عنها، وجعل بعض المسؤولين يقدم اعتذاره علنا عن انتهاكات تابعيه، وهذا ما يجعلنا في قلب المرحلة الجديدة التي تكتب عقدها الاجتماعي الجديد. والمهم أن نعرف كيف نتموضع في قلب هذا العالم المقبل.