- قبل
أوكد أنني لست من أتباع نظرية المؤامرة، ولا أرى البتة أن ثمة مكانا للمؤامرة في الحياة، بل أطالب بحذف هكذا مفردة من المعاجم والقواميس باعتبارها مفردة لا عقلانية وأن لا معنى لها، وكثير من البشر يصاب بالارتكاريا لو شاهد هذه المفردة. وحتى أن البشر في تاريخهم الطويل لم يعرفوا هكذا طريقة، فقابيل لم يقتل هابيل كما أن الذئب -كما إخوته- بريء من دم يوسف! لكن ثمة مهووسون همَ من اختلق كذلك نظرية، وعليه اتهمت أمريكا الإمبريالية بما حدث لمصدق رئيس الوزراء الإيراني في الخمسينات، وسلفادور الليندي الرئيس التشيلي في السبعينات أما: فيتنام، أفغانستان، العراق فما لها علاقة بها، وهلم جرا.
دعوكم من هذه التخرصات فالدول الكبرى وحتى إسرائيل لا تتدخل في شئون أحد، ولكن للأسف ما سمي في الأدبيات الأمريكية بالعالم الثالث استمرأ أن يرمي جثته وأمراضها على الآخرين، وعلى الغرب خاصة الإمبرياليات القديمة بريطانيا وفرنسا، والجديدة أمريكا وبناتها.
1-
حين قام انقلاب سبتمبر 1969م في ليبيا كنت تلميذا في المدرسة الإعدادية مبهورا بناصر الزعيم العربي، ومن هذا وشغف المراهق كنت من المتظاهرين الفرحين بالعسكر الذين أطاحوا بالملك ومملكته الرجعية، وكمنبهر بالحدث صعقت لما قال جيمس بوند: الرئيس مصاب بمرض يدعى كولونيل شمال أفريقيا.
كان ذلك في فيلم لجيمس بوند جديد عرض عام 70 في سينما الشرق بالحي الذي أسكن الصابري، خرجتُ لا أصدق ما رأيت من ترجمة وما سمعت وكانت آخر عبارة في الفيلم، حيث استدعي جيمس بوند على عجل من أطباء الرئيس الذي ألح عليهم إحضاره ولما التقاه على انفراد، خرج في اللقطة الأخيرة ليقول: الرئيس مصاب بمرض يدعى كونونيل شمال أفريقيا، وحتى الآن لم أصدق نفسي أني شاهدت ذلكم.
بعد سنوات سيطلق ريجان الرئيس الأمريكي عام 1986م غارة بأسطول جوي يقنبل طرابلس وبنغازي، وسيطلق على الكونونيل القذافي كنية: أخطر رجل في العالم.
الكونونيل القذافي هذا المرض المصاب به الرئيس عام 70 وأخطر رجل في العالم عام 86م هذا الكونونيل القذافي ذاته عام 2003م يسلم مشروعه للتسلح النووي، وحول هذا مما جاء في تقرير مطول لجريدة لوس أنجليس تايمز(ظل المسئول البريطاني الرفيع يذرع حجرته ذهابا وإيابا حتى تحول المساء إلى ليل كامل. وظل كل بضع دقائق يرفع الهاتف ليتصل بالعاصمة الليبية طرابلس. ويسأل هذا المسئول السفير البريطاني في ليبيا أنتوني لايدن «ألم يبثوه حتى الآن؟». فأجابه لايدن «هناك مباراة كرة قدم على شاشة التلفزيون».
قبل هذه المكالمة بثلاثة أيام، كانت ليبيا قد وافقت على التخلي عن برامج أسلحتها النووية والكيماوية مقابل إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة ضدها، منهية بذلك مفاوضات سرية استمرت عدة أشهر مع البريطانيين والأمريكيين.ومن جهة أخرى ذكرت الصحيفة: أن المسئولين ما زالوا غير متفقين على السبب الذي دفع القذافي للتخلي عن برامج تطوير أسلحة الدمار الشامل. فبعض المعلومات تساند وجهة نظر الرئيس بوش الذي يرى أن السببين وراء ذلك كانا الإطاحة بصدام حسين ونظرية الولايات المتحدة الخاصة بالهجمات الاستباقية. إذ دفع ذلك الزعيم الليبي ليغير من موقفه.
لكن عددا من مسئولين بريطانيين وأميركيين قالوا إن القذافي ظل يحاول لسنين أن يسلم الأسلحة التي بحوزته كي ينهي العقوبات الدولية التي ألحقت أضرارا كبيرة بالاقتصاد الليبي وتسهيل الطريق لوصول ابنه إلى الحكم في آخر المطاف. ففي الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش تتحدث بحزم حول برنامج إيران النووي، ساعد المزيج من المفاوضات والمعلومات الاستخباراتية الجيدة والضغط الذي فرض على ليبيا على تشكيل خطة أخرى للتعامل مع طهران، حسبما ذكر دبلوماسيون على اطلاع بمجرى الأحداث).
إننا لسنا بحاجة للإيضاح أن المهمة هذه تقع تحت بند سلم تسلم. لكن الأهم أن عملية الاستسلام هذه عدت سابقة يمكن النسج على منوالها، ومن خلالها دخل القذافي التاريخ الدولي.
2-
تتداول الأخبار هذه الفترة مسألة نووي كيم جونغ أون الذي تطرح الولايات المتحدة لحله الأخذ بنموذج طبخة القذافي، وقد جاء ذلك بعد أن فاجأ الزعيم الشاب جونغ الجميع، معلنا وقف نشاط بلاده فى التجارب النووية، مؤكداً أن الهدف الرئيسي للحزب الحاكم الذي يتزعمه هو بناء عالم خالٍ من السلاح النووي.
وعلى أثر ذلك أخذ المحللون يعيدون التذكير بالدوافع التي جعلت القذافي يسلم ثم يتحول إلى نموذج للاستسلام، ورغم ذلك فإن جونغ وجماعته اعتبروا القذافي كنموذج إهانة لهم ولبلادهم، لكن مطبخ السياسة في حال كحال القذافي يوصل لنفس النتائج وإن تغيرت المعطيات والشخصيات، فالدوافع المشتركة تنتج نفس الطبخة وإن بتوابل آسيوية.