انتظر سكان درنة العاصفة القادمة من البحر، فإذا بالوادي يداهم المدينة من الخلف، ويجرف في طريقه الحجر والبشر والشجر باتجاه البحر، في كارثة وطنية غير مسبوقة في تاريخ ليبيا الحديث، وربما البعيد. آلاف العائلات اختفت من الوجود في ساعات معدودة، واختفت معها البيوت والشوارع، وما كان يعد من معالم المدينة.

مسحت السيول الناجمة عن عاصفة «دانيال» المتوسطية مساحات شاسعة من مدينة درنة المطلة على البحر المتوسط وما جاورها، لتبدو الآن من السماء وكأنها حقل من الخراب، ويجد الليبيون بلادهم وقد تحولت إلى خيمة عزاء كبيرة على امتداد مناطقها ومكوناتها. ومع استمرار عمليات البحث، في محاولة للعثور على المفقودين، يتوقف المصدومون من هول الفاجعة عند أسئلة المتسبب ويريدون إجابات، موجهين أصابع الاتهام إلى أجهزة الدولة المنقسمة والمتصارعة على السلطة، بعد انهيار السدين، لعدم التعامل الجدي والمسؤول مع العاصفة، ومن بعدها الكارثة؛ إذ غابت الإجراءات الاستباقية الفعالة، على الرغم من التحذيرات والتنبيهات الصادرة عن مراكز الأرصاد الجوية المحلية والدولية، بينما كانت العاصفة تتجه نحو ساحل ليبيا الشرقي.

السيول جرفت البشر والحجر في درنة
لم يحتمل سدا المدينة كميات الأمطار الهائلة التي ظلت تهطل ساعات طويلة متواصلة، فانهارا وانفجرا ليتحول تدفق المياه إلى تسونامي، جرف ليلة الأحد 10 والإثنين 11 سبتمبر ما كان في طريقه من مبانٍ، بما فيها من سكان، وأزال نحو ثلث المدينة، واختفت أحياء بأكملها.

- للاطلاع على العدد 408 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

ومع مرور خمسة أيام على بدء عمليات الإنقاذ، تتضاعف الجهود المدعومة بالمساعدات الدولية من أجل العثور على ناجين، وسط توقعات بوصول عدد الضحايا في درنة إلى نحو 20 ألفاً؛ إذ لايزال مشهد الجثث الطافية على سطح البحر قائماً على طول شاطئ المدينة.

الوضع مأساوي في مناطق أخرى
وإلى جانب درنة الحزينة، كان الوضع مأساوياً أيضاً في مدن سوسة والمرج والبيضاء، ومناطق داخلية أخرى، فمن الصعوبة وصول فرق الإنقاذ إليها جراء ضعف الإمكانات المحلية، وبمعية مساعدات طارئة تصل تباعاً من الخارج قد تبعث الآمال لدى بعض الناجين.

ورجح وزير الطيران بالحكومة المكلفة من مجلس النواب هشام أبوشكيوات أن يجرى إخلاء أجزاء كبيرة من مدينة درنة، لأنها أصبحت غير صالحة للسكن، وهو أمر ضروري في مثل هذه الحالات، للوقاية من الأمراض والعدوى، بينما تتطلب إعادة تأهيل البنية التحتية وإعادة الإعمار وقتاً طويلاً ربما يستغرق سنوات.

تفسيرات علمية للعاصفة «دانيال»
وقدم خبراء مختصون في الجيولوجيا والأرصاد الجوية تفسيرات علمية لأسباب العاصفة «دانيال» شبه الاستوائية نادرة الحدوث، ويطلق عليها المختصون الـ«ميديكان»، وهي ظاهرة استثنائية تحدث عند التقاء كتلة هوائية باردة على ارتفاع وأخرى أكثر دفئاً قادمة من البحر الأبيض المتوسط.

وقدر خبير المناخ اليوناني، خريستوس زيريفوس، أن منسوب مياه الأمطار التي هطلت على ليبيا بلغ متراً؛ إذ إن كمية الأمطار التي غمرت منطقة البحر المتوسط كانت أكبر من أي وقت مضى منذ منتصف القرن التاسع عشر.

الكارثة كشفت هشاشة الدولة
لكن هناك تفسيرات أخرى لأسوأ كارثة في ليبيا والبحر المتوسط تتعلق بسوء الإدارة والتعامل مع الأزمة جراء هشاشة الدولة بسبب الصراع السياسي بين أطراف الأزمة القائمة في البلاد؛ إذ تبين أن آخر صيانة لإحدى المنشأتين تعود إلى العام 2002. وقد بني السدان من قِبل شركة يوغوسلافية عامي 1973و1979، مما يكشف إخفاق الحكومات المتعاقبة في حماية المواطنين، بل جرى دفعهم لمواجهة الخطر وحدهم، مع إهمال البنية التحتية الأساسية، الأمر الذي يثير مخاوف من تعرض المنشآت الأخرى جميعها إلى حالات مماثلة بسبب غياب الصيانة.

- للاطلاع على العدد 408 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

وما يزيد في اتهام الجهات المسؤولة بالتقصير هو تجاهلها وجود دراسات سابقة تحذر من مخاطر استمرار إهمال الصيانة المنتظمة، وآخرها دراسة كشفت بعد وقوع الكارثة، نشرتها جامعة سرت في نوفمبر 2022، حيث أكدت احتمال تعرض حوض وادي درنة لمخاطر الفيضانات، حيث تقع المدينة فوق ما يعرف بـ«المروحة الطميية» التي تشير إلى طبيعة تتشكل عند قواعد سلاسل الجبال بواسطة الرواسب التي تتكون بعد انسياب المجاري المائية في الأودية شديدة الانحدار.

وزيادة على ذلك، فإن «دانيال» مرت على اليونان قبل أيام قليلة، وأودت بحياة 15 شخصاً، فكان ينبغي أن تتنبه السلطات الليبية إلى الكارثة؛ إذ كان من الممكن اتخاذ إجراءات مثل الإخلاء إلى مناطق أكثر أماناً تقع في الأعلى.

النائب العام يفتح تحقيقا في الكارثة
وعلى الرغم من أن مكتب النائب العام بموجب القانون يباشر التحقيقات تلقائياً في مثل هذه الظروف، حيث أوفد عدة أعضاء إلى المناطق المنكوبة، فإن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي قال، الأربعاء، إنه طلب من النائب العام فتح تحقيق شامل في الكارثة، و«محاسبة كل من أخطأ أو أهمل بالامتناع أو القيام بأفعال نجم عنها انهيار سدي مدينة درنة، على أن تنسحب التحقيقات إلى كل من عطل جهود الاستغاثة الدولية أو وصولها للمدن المنكوبة».

وأعلن بعدها رئيس حكومة «الوحدة الوطنية الموقتة» عبدالحميد الدبيبة أنه طلب من النائب العام فتح تحقيق عاجل في ملابسات انهيار سدي درنة. وقال إنه وجه الأجهزة المعنية بالتعاون الكامل في التحقيق.

الانقسام يعرقل جهود الإغاثة
وفي صورة للانقسام الذي رافق الكارثة، قال الناطق باسم «القيادة العامة»، اللواء أحمد المسماري، في تصريحات صحفية: «كل الدول تطلب الإذن للمشاركة في عمليات البحث والإنقاذ، لكن الانشقاق السياسي أثر بشكل كبير على ذلك»، متهما حكومة الدبيبة برفض طلبات للمساعدة. لكن الناطق باسم حكومة الدبيبة، محمد حمودة، قال في تصريحات لاحقة: «الدبيبة وجه بضرورة تحديد نوع الاحتياجات اللازمة لمساعدة الشعب الليبي في أزمته»، وذلك رداً على ما ذكره المسماري.

وأعلنت حكومة الوحدة، الأربعاء، تلقي مساعدات إنسانية من 12 دولة لإغاثة المتضررين، وهي: تركيا ومصر والأردن والكويت والإمارات وقطر وتونس والجزائر ومالطا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا. وأوضحت أن المساعدات شملت قوافل تضم فرق إنقاذ وانتشال الجثث، وكلاب أثر مدربة، ومستشفيات ميدانية، وأطقماً طبية، وأجهزة استشعار حراري، وفرق غوص وشفط المياه، ومواد غذائية وإيواء، وسفناً، وطائرات للمساعدة في عمليات البحث.

بينما شهدت صفحات التواصل الاجتماعي الليبية حملات تضامن واسعة مع ضحايا الكارثة التي حلت بدرنة، واعتبرت أن هذه الكارثة أكدت وحدة البلاد التي كانت ضحية انقسامات واصطفافات المتصارعين على السلطة. ويطالب عديد النشطاء والشخصيات المستقلة، إلى جانب مواطنين كثر، بالتحقيق فيما جرى، وتحديد المسؤولين عن تحول العاصفة العابرة إلى كارثة وطنية مهولة.