Atwasat

الهجرة تَقسِمُ ليبيا

أحمد الفيتوري الأحد 17 مايو 2015, 09:01 صباحا
أحمد الفيتوري

حكى لي المرحوم الأستاذ وهبي البوري أن السبب في حفر بئر السارة في أقصى جنوب برقة هو منعُ تجارة العبيد دوليا، مما اضطر يوسف القره مانلي الى تغيير مسار تجارة العبيد التي كانت مصدرا رئيسا لثروة دولته، لذا استدعى تاجرا من مصراته يدعى محمد المحيشي وكلفه بأن يذهب إلى الشرق، وأن يحاول من هناك مواصلة تجارة العبيد باعتباره متمردا على سلطته، وجاء المحيشي إلى بنغازي ومنها عمل على حفر البئر حتى تتمكن القوافل في طريقها الطويل من التزود بالماء، وبنغازي كانت توفر له الملح كي ينقله إلى أدغال أفريقيا ويستبدله بالذهب والعبيد، هذا جعل بنغازي تظهر كمدينة مركزية مرة ثانية في تاريخ برقة، حيث كانت المرة الأولي في العهد الإغريقي حين عرفت"بنغازي- هيسبريدس" كميناء في أقصى غرب العالم كما ظن الإغريقيون آنذاك. لم أتحقق من المعلومة، لكن الراوي مثلي ناقل لما سمع، وهو ذو دلالة فقد ساهم حينها في توحيد دولة القرهمانليين.

جعلت الجغرافيا من ليبيا رغم قسوة الطبيعة ميناء أفريقيا على البحر المتوسط، ولهذا كانت ليبيا زمن سفينة الصحراء أكبر طريق للقوافل بين أفريقيا والبحر المتوسط، فكانت واحة مرزق عاصمة القوافل في العالم وطرابلس ميناءها. وقد استخدمت الحركة السنوسية من هذه الجغرافيا طريقا لنشر نفوذها وطريقتها في أفريقيا جنوب الصحراء، وقد دخلت هناك في عراك مع النفوذ الغربي الفرنسي بالذات، حيث كان عمر المختار يقاتل الفرنسيين في تشاد عند احتلال الإيطاليين بنغازي ثم طرابلس في أكتوبر 1911م.

هذه العلاقة الجيوتاريخية هي ما مدت طموحات القذافي التوسعية بالدافع لمد نفوذه الأفريقي، وفيما بعد، أي في العقد الأخير من سيطرته على ليبيا، عمل على توظيف الهجرات الأفريقية إلى أوروبا، هذه الهجرات التي كان من دوافعها الأقوى حاجة أوروبا لعمال شباب بعد أن أصابت أوروبا الشيخوخة، أما حجة الأفريقيين لتلبية هذه الحاجة فلعل سبلها الانتحارية تبين أنها رغم كل الصعوبات هي السبيل المتوفر للنجاة.

وقد عمل القذافي منذ نهاية عقد الثمانينات على استغلال هذا المُستجد لأسباب سياسية ليس أقلها درء الضغوطات الغربية عنه

وقد عمل القذافي منذ نهاية عقد الثمانينات على استغلال هذا المُستجد لأسباب سياسية ليس أقلها درء الضغوطات الغربية عنه، وهو من حوصر جويا بقرار دولي في أول عقد التسعينات، حكى لي صديق أفريقي التقيته بطرابلس الغرب كان دخل في مغامرة لأجل الهجرة إلى أوروبا، أنه حين أراد الدخول في مغامرته وهو موجود بطرابلس اقترح عليه أصدقاء أفارقه له، أن يذهب الى منطقة"الرشيد" وهي بوسط المدينة، وهناك يجد تجاراً ليبيين يوفرون له مُهربا سيقوم بالمهمة، قال: ذهبت ودخلت مع أحد التجار، من طلب منى خمسة الألاف دولار، دخلت معه في جدل حتى استقر المبلغ المطلوب على ألفي دولار، أدفع النصف في الحين والنصف الثاني حين أركب المركب البحري، ومن التاجر عرفت أن ثمة مينائين صغيرين يبعدان عن طرابلس عشرات الكيلو مترات في مدينة زوارة غرب طرابلس وزليتن شرقها، طلب مني الحضور بعد يومين عند الساعة السابعة صباحا، حين جئته ركبنا حافلات وكان عددنا تقريبا أربعين رجلا وخمس نساء، وقد خفرنا بالشرطة الليبية حيث كانت ثمة سيارة أمامنا وسيارة خلفنا حتى وصلنا مدينة زليتن، في هذه المدينة تم وضعنا في بيوت متهالكة، وعوملنا أثناء إقامتنا لمدة يومين معاملة سيئة أقلها شحٌ في الطعام والماء، في اليوم الثالث حشرنا في قارب صيد متهالك وكان هذا كله يتم بحراسة ظاهرة من الشرطة الليبية. قال آسفا: هل هذا ما يتم بشكل سافر لا يعلمه رجال الأمن في أوروبا، خاصة الأمن الإيطالي؟، فشلت مغامرة صاحبي وضاع ماله وجهده ووقت من عمره وعاد إلى نار آهله.

يبين كل ذلك أن الجغرافيا صنعت هذا التاريخ بين القارتين الأوربية والأفريقية، فما سلف من التاريخ كان الأوربيون هم من يدفعون الأموال لشراء الأفارقة والآن يدفعه الأفارقة لشراء مقام أوروبي، وكانت ليبيا غربا أولا هي البرزخ بين القارتين. وبالتالي المشكل ليس جديدا، لكن ما استجد أن ليبيا أمست دولة فاشلة، وأن البلاد مُقسمة، ومنها أجزاء واسعة محتلة من قوى إرهابية.

اضطردت الهجرة عبر البحر المتوسط ووصلت حالة كارثية تحت عين العالم، وكانت ليبيا الغرب خاصة الميناء الرئيس، وقد وجدت المليشيا المسيطرة على غرب البلاد أن تستغل هذه المسألة في طرح أهميتها ودورها في حماية الجنوب الأوربي، مستلهمة هذا مما فعله القذافي في العقدين الماضيين، حيث يتصور المسيطرون على طرابلس أن قوى الهجرة كأمر واقع يتيح لهم اعترافا غربيا، هذا غير ما يزودهم به من مال وأن يجعل منهم مسألة سياسية دولية، وهم بهذا يريدون تكريس ليبيا المقسمة وبفرضها على العالم، فإذا كانت ليبيا المعترف ببرلمانها وحكومتها دوليا موجودة على الأرض في طبرق، فإن طرابلس عاصمة هذه البلاد دولة –أيضا- قائمة بذاتها وعلى الأرض وتمثل مشكلا دوليا وعدم الاعتراف بها يعني تفاقم هذا المشكل، وفي الاستجابة لهذا كان الليبرالي والسياسي المُحنك من عمره قارب القرن الباجي قايد السبسي سباقا، لهذا صرح بما معناه أنه يعترفُ بما هو حاصل على الأرض وليس ما حاصل في إضبارات الأمم المتحدة.

هكذا جعل من مُشكل الهجرات الأفريقية إلى أوروبا مسألة سياسية دولية وسلاحا يساهم في تقسيم ليبيا، ومن ثم مفاقمة المشكل الليبي ما دخل في أتون دولي يطيل من عمر التحارب ويزودهُ ببنزين، ليبيا أصلا غاصة به، هكذا للإرهاب في ليبيا وجه آخر مُضاف على بلاد، بلاد هي عبارة عن بئر نفط مشتعل ولا ينضب بل كلما زاد اشتعالا زود بالمحروقات. هذا ما يظهر من جبل النار، لكنْ كما لكل مسألة أوجه فإن من أوجه الهجرة أن تضطر القوى المتضررة لقطع جذر المسألة التي تفاقم الأوضاع المتوسطية، مسألة ليبيا بوابة أوربا على الهجرة والإرهاب وما يُستجد.