Atwasat

اعترافات وحكايات خيالية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 18 أبريل 2022, 03:07 مساء
محمد عقيلة العمامي

أنا منكم، ولكنكم نسيتموني. أنا فزاني أصيل! صحيح أن بشرتي واصفرار شعري، لا يوحيان بذلك، ولكنني فزاني بحق وحقيقة، أما كيف خُلقت كذلك، فالأفضل لي أن أقول: "لا أعلم!". كان يعرفني أصدقاء طفولتي وشبابي ولكنهم نسوني، ولم أنسهم أبدا؛ لأن ذكراهم ظلت كجمرة تحت رماد تنور أمي، قد تلسعك إن عبثتَ بالرماد، وقد تعينكم إن أردت أن تشعل ناره من جديد.

فأنا ما زلت: (هو أنا)! تركت بلادي مُرغما، ولم أسرق منكم سوى فتات من حصتي منه، وظللت أشمها، وأمسدها وأهدهدها، وتهدهدني حتى ننام ، كل ليلة، سويا منذ 51 عاما فوق السحاب. أنا لم أفقدكم، أما أنتم لم تنتبهوا، حتى الآن، إلى أنكم تسعون باجتهاد نحو فقدانه، ومن دون أن تنتبهوا إلى أنه أفضل مالديكم! عجيبون أنتم يارفاق طفولتي وجزء من صباي، كيف نسيتموني تماما.

صحيح أنني تعمدت أن أختفي من ذاكرتكم، ولكن الأمر بدا كما لو أنكم،أيضا، تسعون لذلك. سرقتُ منكم أفضل وأثمن ما لديكم، والعار أنكم لم تنتبهوا إلى أنه يعيش فيكم، وأنكم تعتقدون أنكم تعيشون فيه!. أنا سرقته واستفردت به، وحملته في قلبي، طوال الوقت، وعللت له لماذا سرقته منكم؟ قلت له أنكم لم تعطوه حقه، وهو الذي يستحق منكم الحياة كلها، وهو يعلم أنه لن يعيش ما لم تعيشوا من أجله! يعلم أنه سوف ينهب ويدمر ويسرق ويترك مجرد أطلال، ولقناعته وقناعتي ظللنا أصحابا نخشى على بعضنا البعض، فحياتنا تكافل حقيقي، لأننا نعي جيدا أنه لا يعيش بدوني وأنا لا أعيش أبدا بدونه!.

كانت ليبيا بالنسبة لكثيرين منكم مجرد (صندوق رمل) وقالوا ذلك عبر جرائدهم ولم تعترضوا، بل كثيرون منكم، لوحوا بالصحفية التي نشرت هذا الرأي، وقالوا متبسمين: " بالله العلي العظيم، عنده حق..".

ولكن صندوق الرمل هذا ممتليء بدنانير ذهبية حقيقية، وماء وثراء. بعضكم انتبه لذلك، ولكنه زهد في دنانيره، وبعضكم احتفظ بما وجد لنفسه، وفضل رمال الشواطيء الأوربيية مأخوذا بمن يستلقي فوقها مستمتعا بدفء شمسها، ومشروباتها الباردة، فيما ظل الكادحون يجاهدون في سبيل كفاف يومهم! نعم أنا سرقت قطعة كبيرة من وطنكم وطويت عليها جناح العشق والمحبة، وطرت بها بعيدا نحو صحاري الجليد، وقررت البقاء هناك، في كوخ صغير دافيء وسط هذه الصحراء الشاسعة الممتدة، والتي كانت منفى لمن يُهين ويتعالى على وطنه، وفهم المنفيون الدرس وتأذوا كثيرا ولكنهم تعلموا في النهاية أن الوطن جميل سواء أكان حارقا كرمال وادي الناموس، أو كصحراء من ثلج رهيبة كصحاري سيبريا!

فماذا حدث؟ تحايلت على خفر السواحل ورباطات عنق موظفي مصلحة البعثات الدراسية، وانطلقت من بعد أن جمّعت ما يحمله جرابي من ذكريات، وطرت نحومشارف سيبيريا، وعثرت على فتاة كذوبة الشمعة. وقادتني نحو سلطة والدها على السلاح والمال، وسريعا ما تعلمت أسرارها، ومساربها، وتركت بعثتي الدراسية، مواصلا دراستي،هناك في الغرف الخليفة، لاجتماعات صهري مع أولئك الذين يحجون إليها من أجل (البمب والرصاص)، ناقلا إليه في الحال، عبر سماعاته، ما يقولونه، فيما بينهم بلغتهم ولغتي، أثناء اجتماعه بهم! ورأيت بعضا من رفاق سنوات دراستي الابتدائية، في مدرسة سبها، بل صافحوني، وحيوني باللغة الإنجليزية، ولغة صهري أيضا من دون أن ينتبهوا إليَّ، على الرغم من أننا تقاسمنا مقاعد الصفيح في فصول مدرستنا الابتدائية، من بعد اصطِفافنا اليومي أمام حمام الرش بالـ (دي دي تى) فيما نتندر من تساقط البق والقمل من ياقات قمصاننا الطويلة، التي كانت يوما ما بيضاء، فُصلت من أشولة قمح مساعدات النقطة الرابعة الأمريكية.

واستمرت حياتي، كأحد رجال صحاري الجليد الكبار، الذين يتملقهم كثيرون معظمهم من دول مسلمة وعربية، تعيش فوق صحاري الرمال والنفط والثراء الذي ينفقونة لاستمرار سلطتهم قبل كل شيء. قابلتُ ابن البي النزيه الحاكم الفعلي لواحتنا، وأحد رجال الوطن الشرفاء الأوفياء.

وقابلت تلميذا آخر، كان تطاول على ابن البي، مستهترا بسخرية منه، وهوالذي كان أفضل التلاميد وأشطرهم وأكثرهم دماثة ورقيا، فما كان منه إلاّ أن وقف وألقى ببلاغة قصيدة كنا قد درسناها معا في اليومين السابقين، ولكنه سبقنا بحفطها، وسريعا ما أحببناها ، ثم حفظناها بسبب حسن إلقائه وإشادة استاذ الفصل به. وارتفعت مكانته لدينا، فيما زاد ترمش عيني من تطاول عليه، كحالة نفسية نعرفها عنه عندما يُحرج. ما زلت أذكر بعض أبياتها، وهو ذاك الذي استهله الفرزدق لجرير بقوله : ((إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتا دعائمه أعز وأطول بيتا بناه لنا المليك وما بنى ** حكم السماء فإنه لا ينقل)). واستمر بحسن إلقائه وكانت سببا لنا في سرعة حفظها: ((إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ ... وأبوك خلف أتانه يتقمل وشغلت عن حسب الكرام وما بنوا ... إن اللئيم عن المكارم يشغل إن التي فقئت بها أبصاركم ... وهي التي دمغت أباك الفيصل)).

المفارقة العجيبة أنني قابلت الاثنين من بعد غربتي، من ألقى القصيدة، وخيل لي أن شخصيته الأولى الودودة، الخلوقة المثقفة لم تتغير طوال ثلاثين عاما، أو تزيد، منذ يوم تلك القصيدة، أما الثاني فلقد قابتله من بعد حوالي خمسين عاما، وكان تعالية المصطنع ظل كما كان على الرغم من كونه أصبح من حكام بلاده ، ولم يتوقف ترمش عينية أبدا. سوف أحدثكم وباختصار ومن دون ملل عما حدث، ولا أسعى من وراء ذلك سوى إلى التذكر، والتذكير، فهو حقا ما نحتاجه لتوثيق حقيقي لمرحلة صعبة ودقيقية لسيرة بلادنا فمن خلالها إما أن نستعيد وطننا أو نفقده تماما، وعندها سنرحل إلى السماء متحسرين! ويا للحسرة، عندما تقابل الخالق من بعد أن فقدت أبرك وأروع عطياه وهو الوطن. سوف احدثكم عن حكاياتي وتجربتي، فقد تساعدكم على صحوة هي فقط ما ينفقذ بلادكم.