Atwasat

مسيرة الشظايا

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 06 ديسمبر 2020, 10:51 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

هناك كتب تشعر، وأنت تقرأها، بأنها تحرك وجدانك محدثة فيه تيارات عاطفية قد تكون متضاربة أحيانًا، من الحزن والسرور والكآبة والانبساط... تصل بك إلى مشارف البكاء تارة، أو تجتاز حدوده فعلا... مرات تبتسم وحتى تقهقه.

الكتب التي تفعل ذلك في قارئها تنتمي إلى كتب السرد، الروايات والسير الذاتية «التي يكتبها الشخص عن نفسه، وليس السيرة، التي يكتبها شخص عن شخص آخر»، لأنها تتعاطى مع تجارب وخبرات إنسانية حية.

منذ أن قرأت كتاب كازنتزاكي «تقرير إلى غريكو» بالترجمة البديعة التي أنجزها ممدوح عدوان عن الإنغليزية، الذي يمثل سيرة كازانتزاكي الذاتية، لم يحرك وجداني كتاب مثلما حركه كتاب جان جينيه (1) «أسير عاشق»، الذي ترجمه كاظم جهاد المترجم المجتهد المعروف.

لا يعتبر كتاب جان جينيه سيرة ذاتية شاملة، وإنما هو، يمكن القول، سيرة ذاتية جزئية، يتناول فيها تجربة عيشه مع الفلسطينيين، في المخيمات وأيضًا مع الفدائيين في القواعد. كانت نسبة كبيرة منهم شبابًا في العشرينيات وبعضهم أقل، وكان يشاهدهم يضحكون ويمرحون ويمارسون حياتهم اليومية بشكل سلس، ثم يذهبون إلى الموت، كما لو كانوا ذاهبين في نزهة.

الكتاب حافل بوقائع محتشدة بدفء إنساني صادق وعميق، كما أنه يكشف عن سعة وعمق ثقافة بعض هؤلاء الشباب وجلاء وعيهم وإجادتهم للغات أجنبية وقدرتهم على النقاش.

ليس في نيتي استعراض تفاصيل الكتاب، وسأكتفي بإيراد مقتطف واحد أعتقد أنه عميق ومؤثر:
«عدت في 1984 إلى شاتيلا *، وكان المنزل الذي اقتادوني إليه مدمرًا، ومعادًا بناؤه وطليه. قدمت لي النساء الشاي. عرفت منهن أربعا، ربة المنزل وأمها وابنتيها الصغيرتين. كان الجميع، إلا الصبي ابن عشر سنوات، قد جرح في 1982.
- ما يزال الرصاص وشظايا القنابل في أجسامنا.
عرفت منهن أن شعور النساء بالعار لا يأتي من كونهن جرحن بقدر ما من شظايا إسرائيلية في أجسامهن، فيشعرن على هذا النحو بأنهن مهددات بولادات ممسوخة. أكثر منهن جريحات، كن مغتصبات بلا أمل.
- تواصل الشظايا مسيرتها. تحيا حياتها في أجسادنا، وكذلك، وهذا هو الأسوأ، مع أجسادنا». (ص 406).

(1) جان جينيه، أسير عاشق، ترجمة كاظم جهاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2017.
* معروف أنه بعد الاجتياح الإسرائلي للبنان سنة 1982، وإرغام الفدائيين الفلسطينيين على الخروج من لبنان، وقعت مذابح ضد الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا لللاجئين راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين دون تمييز. حينها هناك من اتهم قوات الكتائب اللبنانية بارتكابها، وهناك من اتهم الجيش الإسرائيلي، وهناك من اتهم الطرفين بالاشتراك فيها. (ع. أ. ك)