Atwasat

حول الظلم والتمييز ضد اليتامى وأبناء الفئات المهمشة (1-2)

الزهراء لنقي الأربعاء 16 سبتمبر 2020, 05:32 مساء
الزهراء لنقي

تابعت الرسالة التي بثتها الإعلامية المجتهدة حنان المقوب ليلة7 -9-20 من خلال صفحتها في الفيس بوك عن موضوع "الدولة ولي من لا ولي له" من خلال سرد معاناتها الشخصية إذ أفادت أنها تعرضت للظلم والتمييز بناء على اعتبار اليُتم والنوع الاجتماعي أي أنه تمييز مركب. لقد جاءت هذه الرسالة ضمن سياق السعي لنفض الغبار عن وعي المجتمع ووعي المؤسسات الرسمية لمواجهة ظاهرة ظلم اليتامى في ليبيا. ولعلي أبدأ بتحية الأستاذة حنان على شجاعتها النادرة لتدوين معاناتها. لقد كشفت قصتها عن العوار المخيف الذي يعتري التشريعات التي تتصل بنظام الرعاية الاجتماعية والقصور الهائل الذي تتسم به السياسات وبعض الممارسات المتعلقة بذلك.

تحدثت الإعلامية حنان المقوب من خلال تجربتها الشخصية عن فئة اليتامى وما يتعرضون له من إجحاف وظلم تشريعي وإداري. أوضحت أنها ولدت يتيمة وقضت السنتين الأوليين من عمرها بدار الرعاية. ثم سلمتها الدار لأسرة طيبة وظلت معها حتى بلغت منتصف العشرينات. وبعد أن تجاوزت منتصف العشرينات وتخطت سن الرعاية توفي رب وربة الأسرة. فإذا بدار الرعاية تطالبها مطالبة أفادت بأنها انطوت على معاملة قاسية بأن تسلم نفسها للدار لتعود وتقيم فيها. حاول عمها (أخو كفيلها) رب الأسرة التدخل، لكن "دار الرعاية" رفضت. ثم أفادت بأنها تعرضت للوصم والمعايرة على الملأ بأنها يتيمة ومعايرتها باسمها الأول (قبل التبني) وكأنه جريمة! حُرمت من حقها في التعليم الجامعي بسبب عدم وجود أوراق ثبوتية كافية.

بالإضافة إلى ذلك حُرمت من الرقم الوطني. لماذا؟ لأن الرقم الوطني لا يُمنح إلا لمن يحمل أربعة أسماء وهو ما لا يملكه اليتامى حيث أنهم يحملون ثلاثة أسماء فقط. وقد ظل هذا الوضع قائما حتى صدر قبل أربعة أشهر قرار من قبل اللجنة القانونية لمصلحة الأحوال المدنية في طرابلس بإضافة اسم رابع لفئة اليتامى الذين يقارب عددهم مائة ألف. المفارقة أن أطرافا خارجية ألحت على الإعلامية حنان المقوب أن تطلب اللجوء لكنها رفضت. كما تناولت الأستاذة حنان المقوب ظاهرة المضايقات والانتهاكات النفسية وغير النفسية التي أفادت بأن بنات وفتيات ونساء في بعض دور الرعاية يتعرضن لها.

مواطن الخلل هيكليا وكيفية علاجها
حديث الإعلامية حنان المقوب يفتح ملف الظلم والتمييز الذي تتعرض له جميع الفئات المهمشة. وقد اتضح أن هناك خللا هيكليا يتمثل في وجود بنية تشريعية قاصرة وسياسات غير سديدة قد تكون مسؤولة عن الكثير مما يقع من خلل وينبغي معالجتها بحكمة وبعيدا عن إطلاق الأحكام السريعة والاتهامات. وخلال مراجعة الموضوع من الناحية النفسية، يتبين أن الوزارات المعنية لا توفر للعاملين بدور الرعاية التدريب الذي يتيح لهم فهم واستيعاب نفسية الشباب من الإناث والذكور. وبغض النظر عن تكييف الجهات الرسمية لمسألة استبقاء اليتامى في دار الرعاية بعد سن الرعاية، فإنهم يرون في ذلك سلبا للحرية الإنسانية. وفي الواقع أنني أرى أنه نوع من سلب الحرية أيضا.

وفي هذا الصدد، يحضرني الحيف والإجحاف الرهيب الذي تتعرض له فئة أبناء المتزوجات من أجانب وفئة من تشبه أحوالهم أحوال "البدون". فهناك الكثير من أخوتنا الليبيين الكرام حرموا الجنسية أو أوراق إثبات الهوية تعسفا. عدد كبير منهم في الجنوب. ومن المعلوم أنه كما هو الحال في مناطق أخرى، يشهد الجنوب العزيز صراعات ثقافية يتجاهلها الكثيرون. وهذا نتيجة انتشار مرض التمييز والإقصاء على أساس الهوية والأصل والثقافة واللون والنوع الاجتماعي الذي أصاب الجسد الليبي. وفي هذا الصدد، تحضرني مفارقة أذهلتني وأدهشتني. رأيت شبابا وشابات كالورد المتفتح يبذلون جهدا منقطع النظير في إطلاق الجهود الطوعية لخدمة الأسر المتعيشة التي تعاني والأفراد في جميع المجالات بما في ذلك محاربة الفقر، جمع الدعم، الدفاع عن المظلومين، ريادة أعمال الشباب ودعم الحكم المحلي. وعندما برزت مسألة مشاركة بعض هؤلاء الشباب المتطوعين في دورات للتدريب بالخارج، فوجئنا بأنهم غير قادرين على السفر. ما السبب؟ السبب أنهم حرموا من الجنسية الليبية والرقم الوطني وجواز السفر تعسفا.

الجدير بالإشارة هنا أن عدم الحصول على الرقم الوطني يؤدى مباشرة إلى الحرمان من عدة حقوق منها: استصدار جواز سفر – امتيازات الصحة والقطاع العام التوظيف والإدارة – حق التصويت في الانتخابات – حق العلاج في الخارج للمرضى وجرحي الحروب – حق الدراسة في الخارج للمتميزين – المعاملات المصرفية فتح حساب جديد واستخراج بطاقات أرباب الأسر وشراء العملات الأجنبية – حق التعليم في كليات الطب والنفط والعسكرية. ليس هذا فحسب، بل إنهم يتعرضون للتنمر الممنهج والوصم والسب والقدح الصريح والضمني إذ يوصمون بأنهم من "العائدين " أي المهاجرين الليبيين الذي عادوا من هجرتهم (وكأن ذلك جريمة). بعض من عرفتهم ولد في ليبيا هو والوالدان لكن الجهات الرسمية حرمتهم من حمل الجنسية الليبية والرقم الوطني وجواز السفر. وهم لا يحملون أي جنسية أخرى. ما أشدهُ من عدوان على حقهم في الحركة والتنقل والسفر. وما أشده من عدوان على وجودهم نفسه.

هل نحن أمام خلل إيماني وقصور أخلاقي نحو اليتيم
قلت في مقدمة هذا المقال إن إقدام الأستاذة حنان المقوب على توثيق المحنة التي أصابتها بجسارة أسهم في رفع الغطاء عن خلل تشريعي وسياساتي، لكن الأهم أن ما ثار حول معاناة مجموعات من اليتامى ومن فئة أبناء المتزوجات من أجانب وفئة من تشبه أحوالهم أحوال "البدون" يطرح السؤال: هل نحن بصدد خلل إيماني وقصور أخلاقي ونقص في التراحم على المستوى الفردي والجمعي؟ إن إصلاح اليتيم جزء لا يتجزأ من الإيمان بالله سبحانه، ومن التصديق برسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد شاء العزيز القدير أن ينزل عددا من الآيات التي تؤكد أن إصلاح اليتامى جزء من العمل الذي يصدق ما وقر في القلب من إيمان.

فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدَّقهُ العمل. وليس الإيمان مجرد ترديد كلمات أو حتى مجرد اعتقاد كما هو سائد في بعض الأوساط. ويتحقق تصديق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته الشريفة وأوامره الحكيمة. سورة البقرة وهي سورة البركة فيها آيات عن رعاية اليتامى. يقول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220). إن إصلاح شأن اليتيم جزء من الإصلاح الكلي في الحياة. وإفساد شأن اليتيم جزء من الإفساد الكلي في الحياة. إن من يسهم في الاعتناء باليتيم لاسيما في تيسير شؤون حياته وإشعاره بإنسانيته وصون كرامته مصلح. ومن يسهم في إيذاء اليتيم وفي تعقيد حياته مفسد.

نعم مفسد. سورة النساء تتضمن آيات كثيرة أخرى حول اليتامى وواجبات المجتمع تجاههم. ولعلنا نستحضر الآية الجامعة التي تتصدر سورة النساء التي وردت فيها هذه الأحكام، فكل سورة في القرآن تتصدرها آية جامعة يندرج كل ما ورد في السورة تحتها. يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا". (النساء 1).

إن ورود أحكام اليتامى في آيات كثيرة بعد هذه الآية التي يزلزل جلالها الأفئدة يبين لنا أن إكرام اليتامى جزء من تقوى الله ومخافته. وبمفهوم المخالفة، إن الإخلال بحقوق اليتامى وإهانتهم ابتعاد عن تقوى الله ومخافته. ولنلاحظ أن الآية الكريمة توجه الخطاب للناس قاطبة وليس لفئة المؤمنين أو المسلمين فحسب. وهي تخاطب النساء والرجال باعتبار وحدة الرحم الذي يجمعنا جميعا ومنه تتفرع الأرحام. إن الآية تبين لنا أن أي قيم تجسدها صيغ تعاقدية اجتماعية كأحكام الدستور ونصوص التشريعات لابد أن يستند لها المجتمع ضمن سياق استناده على قاعدة أكبر وهي قاعدة التراحم الإنساني والتراحم المجتمعي. سورة الأنعام أيضا تضمنت قوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ الأنعام: 152.

وإن ما ينسحب على مال اليتيم ينسحب على شأن اليتيم عموما. سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باليتيم وصية فريدة بقوله: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، أشار إلى سبابته والوسطى. إن إنزال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم رعاية اليتامى هذه المنزلة الكبرى يأتي في سياق اعتبار رعاية جميع الفئات المهمشة من صلب الإيمان ومن صلب التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتباع سنته. وقد ذكر القرآن أبرز أصناف هذه الفئات المهمشة في عدد من الآيات منها قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة 60).

في جميع هذه الآيات، الخطاب موجه للمجتمعات والأفراد أيضا على حد سواء. إننا أيضا نستعرض الأسس التي توفرها مرجعيتنا لأن ذلك يتيح لنا التفكر السليم في السؤال: "إلى أي مدى يقدم البعض نص القانون على روحه؟ ومتى ينبغي أن نركز على روح نص القانون؟ إن استدعاء الرحمة والرأفة هو ما يتيح لنا الإجابة عن هذه الأسئلة؟

إن احترام وحماية حقوق الفئات المهمشة ملف مصيري وشائك في هذه المرحلة عندما نتذكر أننا لدينا ركام من التشريعات الجائرة والفوضى نتيجة السلاح العشوائي وانعدام سيادة القانون (هنا أقصد القانون العادل). إن هذا الموضوع الشائك بأبعاده المتعددة يفرض عليها إجراء مراجعات جذرية فيما يتعلق بجدية أدائنا الواجبات التي على عاتقنا. علينا أن نجري مراجعات فيما يتعلق بمسؤولية الجهات الرسمية ومسؤولية الأفراد القادرين والأطر الأهلية المجتمعية القادرة على فعل شيء. 

آن الأوان أن يكون هناك للأفراد القادرين وللمجتمع الأهلي (بمعناه الواسع غير المقتصر على منظمات المجتمع المدني) دور فعال في الحماية الاجتماعية والتكافل والتضامن. لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي نراقب تشظي النسيج الاجتماعي وتآكل منظومة الحماية الاجتماعية حتى «تقوم الدولة». آن الأوان أن نطرد شبح «دولة الريعية» من بيئتنا ووعينا. قد «تقوم الدولة» وقد تكون دولة تتوفر سمات الرشد إذا كان هناك مجتمع حي يأخذ بزمام المبادرة ولا يجلس متصورا أن يديه مغلولتان وهما غير مغلولتين. آن الأوان لطرح صيغ ابتكارية لمفهوم الحماية والرعاية الاجتماعية ومراجعة مفاهيم الولاية.

في الجزء الثاني من هذا المقال، سأتناول ما يفرضه علينا هذا الموضوع الشائك الخطير بأبعاده المتعددة من مراجعات جذرية فيما يتعلق بمسؤوليتنا فيما يتعلق بالواجبات الملقاة على عاتقنا، ووضع خطط وبرامج عمل قابلة للتنفيذ. 

ـــــــــ
مقالات للكاتب:
-  كيف يمكن أن تساعد السردية الوطنية لليبيا في بناء السلام؟ (1- 4)
-  جبريل .. رجل الدولة والإنسان
-  حول الظلم والتمييز ضد اليتامى وأبناء الفئات المهمشة (2-2)