Atwasat

كيف يمكن أن تساعد السردية الوطنية لليبيا في بناء السلام؟ (1- 4)

الزهراء لنقي الإثنين 20 يناير 2020, 05:31 مساء
الزهراء لنقي

بانتهاء فصل دامٍ من الحرب العبثية غير الأخلاقية تبدأ الآن رحلة شائكة وعرة في البحث في مخلفات هذه الحرب. فثقل ليبيا اليوم أصعب بكثير من ليبيا في يوم4 أبريل ساعة بدء العدوان. فقد تضاعف تمزق النسيج الاجتماعي واتسع الخرق على الراتق.

إن الوقت للبحث عن سردية وطنية مشتركة تجمع الأمة الليبية. توظف هذه السردية الوطنية في استعادة السلم الأهلي، وفي تعزيز الوحدة الوطنية، وفي إنجاز عملية العبور من مرحلة النزاع أو المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار الدستوري. من خلال هذه السردية الوطنية يتم طرح رؤية اقتصادية اجتماعية تقارب مسببات الصراع في ليبيا وتعالجه وتطرح تصورا للتعايش السلمي وبناء دولة الرخاء والنماء.

في البلدان التي تعصف بها النزاعات وتمر بانتقالٍ سياسي ودستوري حاد، يبرز عادةً السؤال الآتي: ما هي التصورات العامة التي يتبناها المجتمع والتي تعتبر بمثابة روابط تربط مكونات المجتمع ببعضها، وتعتبر أساسا للوجدان الجمعي والشعور الوطني الجامع؟ عادةً، تشيع هذه التصورات العامة بين مكونات المجتمع بالمعنى الإجمالي التجريدي، ويتوافق عليها أبناء المجتمع توافقا عاما بالمعنى النسبي. أي إن كل تصور منها قد تشترك في حمله مجموعات من الأمة. لكن قد لا يكون هناك تطابق كاملٌ في الآراء حول كل تصور. ومن الطبيعي أن تكون هناك بعض الفئات التي قد لا تتبنى هذا التصور أو ذاك. تكمن أهمية هذا السؤال في أنه في غالب الأحيان يمكن لهذه التصورات العامة أن تشكل سردية وطنية جامعة موحدة.

هذا السؤال برز في ليبيا خلال المرحلة الانتقالية التي بدأت منذ انهيار نظام الحكم الفردي في 2011 ولم تزل مستمرة.

في الفقرات الآتية، نتناول بعض أهم التصورات التي نرى أنها تمثل في مجموعها سردية وطنية يتبناها أغلب الليبيين. كما نبين بعض آثار هذه التصورات. كما نوضح كيف يمكن لهذه التصورات أن تسهم في استعادة السلم الأهلي، وفي تعزيز الوحدة الوطنية، وفي إنجاز عملية العبور من المرحلة الانتقالية وما تضمنته من نزاعات إلى مرحلة الاستقرار الدستوري.

أولا: الحالة الجغرافية السكانية وحتمية الدمج بين اللامركزية الواسعة والمركزية
ليبيا المعاصرة بلد يتسم بمساحة جغرافية واسعة وفي نفس الوقت بعدد من السكان محدود بالنسبة لمساحته، كما يتسم بقوة وتماسك المكونات الاجتماعية الطبيعية فيه. لا توجد كثافة سكانية سوى في قلب كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة وهي كثافة محدودة نسبيا بالنسبة لمساحة الإقليم، وبالمقارنة ببلدان كثيرة أخرى. وخلال مئات السنين، ترسخ النمط السكاني الذي مفاده وجود مسافات بين الكتل السكانية. كما تتسم الخريطة السكانية لليبيا بقوة وتماسك المكونات الطبيعية لاسيما القبيلة والعائلة الممتدة. فمع أن القبيلة الواحدة أو العائلة الممتدة الواحدة لها وجود في أكثر من مدينة وبلدة وبادية، فقد ترسخ النمط الذي مفاده استمرار وجود الجزء الأساسي من كل قبيلة وعائلة ممتدة في مدينة بعينها أو بلدة أو بادية بعينها بحيث أصبحت تُعرف بانتسابها لها وتعرف المدينة أو البلدة أو البادية باعتبارها "المقر الرئيسي" أو الموطن المحلي الرئيسي لتلك القبيلة أو العائلة الممتدة.

وقد أدى ذلك كله إلى نشوء نظم إدارية تجمع بين اللامركزية وبين المركزية متعددة الأقطاب. أيضا، ازداد الجمع بين اللامركزية الواسعة والمركزية متعددة الأقطاب. فخلال القرون الماضية كانت المدن والبلديات التي توجد فيها القبائل والعائلات الممتدة تمارس قدرا من الحكم المحلي الذي يستند إلى أعراف محلية بالإضافة إلى الانضواء تحت سلطة السلطات السياسية المختلفة التي تتابعت على البلاد والقوانين التي أصدرتها.

إن هذه الطبيعة الجغرافية والسكانية ترجح أن صياغة معادلة متوازنة تجمع بين اللامركزية الواسعة والمركزية متعددة الأقطاب يعزز احتمالات أن يكون عبور ليبيا من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار الدستوري أكثر أمانا. كما يرجح أن توسيع الحكم المحلي كما وكيفا أفقيا ورأسيا يسهم في ذلك أيضا. إن اللامركزية الواسعة والمركزية متعددة الأقطاب تناسب البلدان التي تكون فيها المكونات الطبيعية كالقبيلة والعائلة الممتدة والمكونات الثقافية ذات حضور اجتماعي قوي. إن اللامركزية الواسعة تناسب النمط الجغرافي والسكاني الذي تكون فيه مساحة البلاد محدودة وغالبية السكان مركزة في رقعة ضيقة وغالبية السكان يعيشون ضمن أسر صغيرة أو كأفراد.

ثانيا: الدمج بين اللامركزية الواسعة والمركزية متعددة الأقطاب هو النموذج الذي حكم عملية تكون ليبيا المعاصرة
لقد كانت اللامركزية والمركزية المستندة إلى عدة مراكز هي الفكرة الأساسية التي استندت إليها جهود تكوين ليبيا المعاصرة. منذ 1850 حتى 1950 ــــ كان نموذج اللامركزية والمركزية المستندة إلى عدة أقطاب هو النموذج الذي حكم جهود تأسيس كيانات عامة وتنظيم الحيز العام وجهود الاستقلال التي انبثقت منها ليبيا المعاصرة. لقد كانت الجهود العامة وجهود تأسيس بنيان عام، وجهود الاستقلال عبارة عن صنفين من الجهود: جهود بذلت في كل واحد من الأقاليم الثلاثة، وجهود مشتركة تعاونت الأقاليم الثلاثة في بذلها. بالنسبة للجهود التي بذلت في كل واحد من الأقاليم الثلاثة، يلاحظ أنه في برقة بالشرق، بذلت جهود نحو تأسيس بنيان عام بصورة متدرجة بقيادة الدعوة السنوسية والقبائل تمخضت عن حكم محلي فعلي. كما بذلت لاحقا جهود ضد الاحتلال الإيطالي. وفي طرابلس، بذلت جهود لملء الفراغ الناتج عن انحسار ثم خروج الإدارة الممثلة للسلطنة العثمانية. كما تكاثرت المنصات الفعلية ثم الرسمية خاصة على مستوى العمل الطوعي والمجتمع المدني ثم على مستوى التمثيل الرسمي ضمن سياق إدارة العلاقات الخارجية والتفاوض مع القوى الخارجية. وفي فزان، بذلت جهود غلب عليها مواجهة سياسات الإدارة الممثلة للسلطنة العثمانية ثم لإعادة تنظيم الحكم المحلي. أما بالنسبة للجهود المشتركة، فنجد أنه بالتزامن مع نضج الجهود التي بذلت في كل إقليم، اتسع نطاق التعاون بين الأقاليم الثلاثة. وقد تعمق هذا التعاون خلال الربع الثاني من القرن العشرين.

ترتب على ذلك أنه عندما تأسست دولة الاستقلال عام 1951، استندت إلى مزيج فريد من الاتحادية واللامركزية الواسعة والمركزية متعددة الأقطاب. لقد جرى تبني النظام الاتحادي تلقائيا. واستمر هذا النظام خلال الفترة ما بين عام 1951 وعام 1963. ويبدو أن قطاعات واسعة من الأمة الليبية شعرت أن هذا النظام مناسبٌ.