Atwasat

جبريل .. رجل الدولة والإنسان

الزهراء لنقي الأربعاء 08 أبريل 2020, 10:08 مساء
الزهراء لنقي

بسم الله الرحمن الرحيم
«يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.»

سلامٌ من الأمة الليبية على روح الأستاذ محمود جبريل ....
.... أثابك الله خيرا عن عطائك لأمتك

نحتسب عند الله المرحوم الأستاذ الدكتور محمود جبريل، أحد أعلام ليبيا المعاصرين، والذي انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل يومين بالقاهرة ونحن على مشارف ليلة النصف من شعبان المباركة. وإذ نترحم عليه في هذه الليلة المباركة نستذكر ومضات وملامح مسيرته وعطائه. ذلك أنه على الليبيين مسؤولية دراسة أطروحات الدكتور محمود جبريل. لكن عليهم مسؤولية أكبر وهي دراسة نهج ورؤية الأستاذ جبريل كعَلَم من أعلام الأمة الليبية وكرجل دولة وكإنسان.

رجل الدولة الخبير
خلال مسيرته، جسد الأستاذ محمود جبريل مفهوم «رجل الدولة الخبير». استندت علاقة الأستاذ جبريل بالحيز العام والشأن العام إلى دراسة علمية وممارسة عملية في نفس الوقت. أصبح الدكتور محمود جبريل أستاذا متخصصا في مجال بناء المؤسسات وتسييرها ومتخصصا في بناء القدرات في هذا المجال. فكان يتعامل مع مفهوم السلطة السياسية ومفهوم الدولة على أسس علمية لا ارتجالا. وتطبيقا لذلك، أصر على أن الخطوة الأولى التي يجب إعطاؤها أكبر أولوية في العمل العام هي صياغة رؤية صحيحة على المستوى الوطني الكلي، وصياغة رؤى صحيحة للمؤسسات والكيانات. في هذا الصدد، لنا أن نتذكر أمرا مهما وهو أن التخصص في دراسة الشأن العام والتنظيم والعمل المؤسسي هو تخصص نادر في كثير من بلدان العالم بما في ذلك ليبيا والبلدان العربية. 

القيادة الوطنية المتميزة والجامعة
كما جسد الأستاذ محمود جبريل مفهوم «القيادة الوطنية المتميزة والجامعة». كان دور الدكتور محمود جبريل خلال انتفاضة 2011 محوريا وحاسما. فخلال ذلك المنعطف الخطير، كانت الأمة الليبية بحاجة إلى قيادة تحوز أكبر قدر من الإجماع الوطني والقبول الدولي. وقد تحقق ذلك في شخصية الدكتور جبريل. تحمل الدكتور جبريل المسؤولية في ساعة شديدة الصعوبة. وبعد أن غادر جبريل منصبه القيادي في السلطة التنفيذية، أسس تحالف القوى الوطنية الليبية. في فهم الأستاذ محمود جبريل كان التحالف منصة جامعة لتمثيل أكبر عدد من الليبيين تجسيدا لمفهوم الشمول (inclusivity). لم يكن المراد من التحالف حزبا بالمعنى التقليدي لمفهوم الحزب، أي أن يكون منصة لفريق في مقابل فرق أخرى. هذا الفارق لم يلاحظه الكثيرون.

بالنسبة لمحمود جبريل، كانت طبيعة التحالف ووظيفته تشبه طبيعة ووظيفة الأحزاب التي تأسست في غالبية البلدان التي اجتاحها الاستعمار الخارجي مثل حزب المؤتمر الوطني الهندي الذي تأسس في 1885 وقاده لاحقا غاندي ونهرو، وحزب الوفد في مصر عند بداية تأسيسه ليمثل الأمة المصرية في مفاوضة الاحتلال البريطاني على الجلاء، وذلك قبل أن يتحول عدد كبير من تلك الأحزاب إلى تجسيد النموذج التقليدي لمفهوم الحزب (بمعنى فريق في مقابل فرق). ومن هنا جاءت مكونات اسم هذه المنصة التي أسسها محمود جبريل أي كلمة «التحالف»، وعبارة «القوى الوطنية».

أقول هذا رغم أني شخصيا لم أكن يوما عضوة في تحالف القوى الوطنية حفاظا على استقلالي بل أني نأيت بنفسي عن حضور أي لقاء لتحالف القوى الوطنية. أقول هذا رغم كل الإخفاقات التي عاينتها والاستدراكات التي لدي على حزب تحالف القوى الوطنية. وعندما كنت أُسر برأيي للأستاذ محمود في بعض ممارسات وخيارات أعضاء تحالف القوى الوطنية وأستدرك عليهم وعليه كونه ممثلا عنهم، كان يرد مبتسما متقبلا نقدي اللاذع «تحالف القوى الوطنية هو مرآة للشعب الليبي الذي حُرم من ممارسة الحياة السياسية والحزبية، فيهم الصالح والطالح».

الإيمان بالتوافق ورفض الحل العسكري
ظل جبريل يحاول استلهام إرادة الليبيين ككل، ويلح على قيمة المصلحة المشتركة وقيمة الشمول في جميع المجالات، ونأى بنفسه عن الانقسامات التي من شأنها أن تمزق النسيج الاجتماعي لاسيما في الحرب الأخيرة على طرابلس. وظل مؤمنا بالحل السياسي والتوافق ورافضا للحل العسكري. وظل يدعو إلى بناء الجسور بين القبائل وبين المدن وبين الأقاليم حتى في أكثر المسائل حساسية مثل جمع السلاح. فكان يؤمن بضرورة ربط مسألة معالجته بالدفع بمشاريع اقتصادية تعمل على دمج الشباب المسلح في الحياة المدنية. ليس هذا فحسب، بل إنه كان يدعو إلى أن يسعى الليبيون للتوفيق بين الأطراف الإقليمية والدولية فيما يتعلق بالشؤون التي تتماس فيها مصالحها مع مصالح الأمة الليبية.

ولأن جبريل كان من المؤمنين بضرورة التوافق الإقليمي ثم التوافق الدولي، فقد كان يدعو إلى أن تتوافق القوى الإقليمية لاسيما المعنية بالشأن الليبي. وكان يعتقد بأنه هناك بالفعل إمكانية لحصول ذلك التوافق. وذلك إذا ما توفرت الرؤية لمشاريع مستقبلية اقتصادية تجمعنا جميعا. ومثال على ذلك مبادرته الأخيرة لوقف إطلاق النار حيث كان مؤمنا إيمانا كاملا بضرورة قيادة الاتحاد الأفريقي للوساطة في الملف الليبي.

ومثال آخر هو دعوته لكل من شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية فيما يتصل بسياساتهما الاستثمارية في ليبيا بالتعاون والشراكة لا التناحر بينهما، وذلك عبر تبني مشاريع اقتصادية إقليمية ضخمة على الأرض الليبية مع شركاء إقليمين من دول الجوار الليبي وشركاء محليين ليبين تعمل على استيعاب المهاجرين الأفارقة وبناء قدراتهم والاستعانة بهم في سوق العمل الليبي. وبذلك يتم معالجة ملف الهجرة غير النظامية معالجة شاملة جذرية.  

تكنوكراط وصاحب رؤية مستقبلية تستند إلى التخطيط الاستراتيجي الرصين
كان جبريل صاحب رؤية مستقبلية مستندا في ذلك على التخطيط الاستراتيجي الرصين مجسدا معنى السياسي التكنوكراط. كان يؤمن إيمانا عميقا بسلاح المعرفة. فكان يقول «رأس المال الحقيقي هو المعرفة وإنه إذا ما تحالفت المعرفة مع البشر خلقوا الثروة [وهو السيناريو السنغافوري] وإذا ما تحالف البشر مع الثروة بدون وجود المعرفة تضيع الثروة»، وهو ما كان يخشى أن ينتهي به السيناريو الليبي.

كان جبريل يرى أن مشكلة المشاكل في ليبيا هي غياب الدولة ومؤسساتها وأن القوى الدولية والمجتمع الدولي ممثلا في مؤسساته الأممية يتجاهل هذه الحقيقة ويقترح حلولا وهمية لا تعي جذر الإشكال في ليبيا. ولعل ذلك كان القاسم المشترك بيننا وما جعلنا نتعاون من أجل تحقيقه في منصات عدة مع زملاء أفاضل آخرين. فكان همنا هو العمل على إعادة بناء الدولة. من ناحيتي كنت أضيف أن هناك حاجة للعمل على بناء الدولة بالتوازي مع بناء الأمة والحاجة إلى بناء سردية وطنية جامعة.

كنا نختلف اختلافا أساسه الاحترام المتبادل. فكان الأستاذ محمود يرفض ما يسميه «المشاريع الماضوية» في إشارة للمطالبة بالعودة للشرعية الدستورية (أي العودة لدستور الاستقلال)، وهو ما كان يعلم أنني ممن ينادي بهذا المشروع. فكنت أرد باحترام وأستشهد بمقولة المؤرخ الليبي مصطفي بعيو رحمه الله «إن أي أمة جهلت ماضيها لا يمكنها أن تحس بوجودها كأمة»، فيرد مبتسما «دعينا الآن نعمل سويا لتأسيس الرؤية لبناء مؤسسات الدولة وتأكدي أننا لن نختلف في ماهية شكل الدولة إذا ما توافقنا على الرؤية». بعبارة أخرى كان الأستاذ محمود معنيا بماهية ومضمون المؤسسات أكثر من مسألة شكل نظام الحكم.   

تجسيد لمفهوم النزاهة والترفع وكظم الغيظ
على المستوى الإنساني، جسد الأستاذ محمود جبريل مجموعة من الأخلاق الحميدة والقيم النبيلة. عدد كبير ممن التقاه وتعامل معه رأى فيه النزاهة والترفع وكظم الغيظ. تعرض جبريل لحملات تشويه هائلة. فرأيناه يتمثل قوله تعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). خلال الآونة الأخيرة، كان يلح في عدة اجتماعات انعقدت في منصات مختلفة قائلا: «إن شئتم خذوا هذه الرؤى التي صغتها وطبقوها». لم يكن يعنيه أن يطبقها بنفسه. ويرجع ذلك إلى عدة اعتبارات منها قناعته أن التشخيص أو الشخصنة داء مزمن في الساحة الليبية. فغالبا ما تُرفض الأفكار والمشاريع لرفض الأشخاص وراء تلك الأفكار وليس بناءا على مضمون الأفكار أو تفنيدها.

عندما تلقيت نبأ وفاته المفاجئ، تراءى لي أن هذه الكلمات والنبرة التي خرجت بها هي من قبيل كلمات المؤمنين الذين يشعر باطنهم بدنو أجلهم فيكون شاغلهم الأساسي تسليم الأمانات. أيضا، شهد الكثيرون للمرحوم محمود جبريل بالنزاهة وعفة اليد لاسيما عندما تحمل المسؤولية التنفيذية وهو سلوك ندر أن نرى مثله فيمن تقلد المناصب الرسمية لاسيما في زمن الفوضى.

التجرد وعفة اللسان والبعد عن الادعاء أو الانتصار لنفسه عند تعرض إيمانه للتجريح
في سلوك الأستاذ محمود جبريل رأينا التجرد وعفة اللسان والبعد عن الادعاء أو الانتصار لنفسه عند تعرض إيمانه للتجريح. خلال الاجتماعات التي امتدت لساعات، رآه زملاؤه يستأذن خلال الاستراحة لأداء الصلاة. المثير للانتباه في هذا الصدد، أن هذا الشخص هو نفس الشخص الذي استساغ أناسٌ أن يصفوه بأوصاف تنال من إيمانه على الملأ في الإعلام وصفا قطعيا وكأنهم عاينوا سريرته مع ربه وكأنهم عاينوا خاتمته قبل رحيله. كان من الواضح أنهم يفعلون ذلك لتحقيق أغراض ومآرب سياسية أقلها إضعافه وإبعاد الناس عنه بعد أن أجمعت عليه قطاعات من الأمة الليبية شملت أجيالا مختلفة، وبعد أن انصرفت تلك القطاعات عنهم إذ وجدت في نهجهم ما ينفر.

على أن جبريل لم يدخل مع هؤلاء القادحين في مجادلة، ولا هو انتصر لنفسه، ولا هو دافع عن أغلى ما يملكه أي إنسان وهو علاقته بربه. ويحضرني هنا ما أورده الأستاذ شكري السنكي حين وقف أمام رمزية دفنه في المهجر وفي مقابر أبي رواش وهي المقبرة التي اشترى فيها الملك الصالح السيد إدريس السنوسي مقبرة له ولزوجته الملكة فاطمة رحمها الله والتي طلب أن يحفر على الشاهد الرئيسي فيها قوله تعالى (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)، ثم شاءت الأقدار غير ذلك ودفنا في البقيع. المثير أن بعض مضامين محاضرات جبريل تشي بأنه كان لديه تذوق وجداني روحاني. ففي معرض بيان عدم إدراك شعوب المنطقة القدرات العظيمة الكامنة فيها استشهد رحمه الله بالمقولة الآتية لمولانا شمس الدين التبريزي شيخ مولانا جلال الدين الرومي: «كيف يمكن للبذرة أن تصدق أن هناك شجرة ضخمة مخبأةً بداخلها... ما تبحث عنه موجود بداخلك»؟ 

محمود جبريل .. سلام على روحك الطاهرة
لعل القارئ الكريم يلاحظ أنني قد حرصتُ في هذه السطور على أن أستخدم لقب الأستاذ أكثر من أي لقب آخر عند الإشارة للسيد محمود جبريل رحمه الله. لقد فعلت ذلك لأشد انتباه الأمة الليبية والأجيال الجديدة وجميع دارسي الشأن العام أن محمود جبريل واحد من أصحاب العطاءات الذين يجدر الاعتناء بإرثهم ودراسته والاستفادة منه. فضلا عن ذلك، فإن مسيرة الأستاذ محمود جبريل عَلم على مرحلة من أخطر المراحل التي مرت بها الأمة الليبية والعلاقات الدولية.  

أخلص التعازي لأسرة المرحوم، وزوجته المعطاءة الصابرة السيدة رحاب عميش وأبنائه وبناته الواعدين ومريديه في ليبيا وخارجها الذين ألقى عليهم جميعا القدر مسؤولية إبقاء شعلة د. محمود جبريل متوقدة. إن الأعلام والقادة من النساء والرجال، وكذلك سيدات الدولة ورجال الدولة المرموقين الذين يكون شغلهم الشاغل خدمة مجتمعاتهم ودينهم عملة نادرة. وبالنسبة للأمم والشعوب التي مزقتها الخلافات والانقسامات قيمة هذه العملة أكبر.  

عندما اتصلت بالسيدة الكريمة رحاب عميش زوجة المرحوم محمود جبريل لتعزيتها، كان مما عزَّ عليها أنه توفي وحيدا في المستشفى وأنه حتى أسرته لم تتمكن من وداعه. ثم لم يتمكن إلا قلة من أهله أو أصدقائه من المشاركة في دفنه والدعاء له عند الدفن. لذلك، فإن الأمة الليبية المدينة للمرحوم محمود جبريل تضم صوتها إلى صوت أسرته وأبنائه وبناته ومريديه فنقول له جميعا وندعو: سلام على روحك الطاهرة. أثابك الله خيرا عن عطائك لأمتك. اللهم تغمده بواسع رحمتك واجمعه بروح نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعله مع الذين قلت فيهم (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا).