Atwasat

ليبيا على حافة الجنون

سالم العوكلي الأحد 06 مارس 2016, 10:12 صباحا
سالم العوكلي

"استكمِلت عملية جمع البيانات في أكتوبر 2013، وقد شمل الوصف الوطني مقابلات مع 2692 أسرة. وقد أفادت أسرة من كل خمس أسر باختفاء أحد أفرادها، كما أفاد 11% أنه تم القبض على أحد أفرادها، أو مقتله(5%). أيضاً أفاد 46% من المقبوض عليهم بتعرضهم للضرب، 20% للتعذيب الموضعي أو التعليق، 16% للاختناق، فيما أفاد من 3 إلى 5% بتعرضهم لتعذيب جنسي، أو حراري، أو كهربائي. باختصار تؤيد بياناتنا المزاعم بأنه حدثت في ليبيا خروقات هائلة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان. وعواقب هذا على مستوى السكان وخيمة: 29% من الأفراد أبلغوا عن شعورهم بالقلق، 30% بالاكتئاب، 6% بأعراض اضطراب توتر ما بعد الصدمة".

هذه الأرقام المخيفة التي تحيل إلى مفردات كارثية، مثل، خروقات هائلة أو عواقب وخيمة، وردت في تقرير "عواقب التعذيب والعنف المنظم: مسح حول تقدير احتياجات ليبيا" الصادر في 2015، والذي أنجزته جامعة بنغازي، مركز البحوث والاستشارات بالتعاون مع مؤسسة دغنتي، المعهد الدنماركي لمكافحة التعذيب. المؤلفون: د. فتحي علي المجبري، أحلام شملالي، مورتن كوش أندرسن، ميت سكار، هنريك رونسبو، جنس مودفيغ. وقام بترجمته كل من: زاهي المغيربي ونجيب الحصادي.

يقرع هذا التقرير ناقوس خطر خفي لا يولَى أي اهتمام وسط انشغال المسؤولين بصراعاتهم السياسية والجهوية والقبلية، وانشغال أعضاء المجتمع المبحوث بملاحقة حاجياتهم اليومية للبقاء على قيد الحياة، للدرجة التي يعتبر فيها المسؤولون أمرا مثل إعادة التأهيل النفسي نوعا من الترف أمام انهيار بنى الدولة والفوضى العارمة التي عاثوها في هذا المجتمع، حيث لا شيء منظما سوى" التعذيب والعنف المنظم" كما في عنوان التقرير.

يتطرق البحث إلى تقييم دقيق لكثير من الأحداث التي هددت وتهدد الصحة الذهنية لعدد كبير ممن تعرضوا لوسائل العنف والقمع المختلفة بعد فبراير، وخصوصا بعد سقوط النظام، كحالات القبض والحجز، والصراع المسلح، والنزوح، والمظاهرات والتجمعات العامة، حيث يشير التقرير إلى أن الناس استخدموا المظاهرات السلمية احتجاجا على وجود ونفوذ الجماعات المسلحة في مناطقهم، وما تعرضوا له من تنكيل من قبل هذه الميليشيات التي تحسب نفسها على الثوار" في 15 نوفمبر 2013 قتل أكثر من 50 شخصاً وجرح أكثر من 500 في طرابلس حين فتحت مجموعة مسلحة من مصراتة النار على مظاهرة حاشدة كانت تحتج على وجود ميليشيات خارجية في المدينة. وعلى الرغم من أن هذا قد شكل أعلى معدل إصابات في مظاهرة واحدة لم يتوان الناس بعد ذلك عن المشاركة في تجمعات عامة في أرجاء البلاد".

أكاد أعتقد جازما أن لا أحد منهم أطلع على هذا التقرير المطبوع في كتاب بل وأعتقد أنهم أنفسهم في حاجة أيضا لإعادة تأهيل نفسي نتيجة صدمة تعرضوا لها

وما يؤسف له حقا أن هذا العدد الذي سقط في مظاهرة سلمية وفي ساعات محدودة لم يسقط مثله في كل المظاهرات السلمية التي قامت ضد نظام القذافي طيلة شهور انتفاضة فبراير وحتى سقوط النظام. وهو شأن يحيلنا إلى أن السنوات التي تلت فرح الليبيين بتخلصهم من أحد أعتى الأنظمة الدكتاتورية اكتظت بكل وسائل العنف التي شكلت في مجملها صدمة جماعية كبرى ستظهر تأثيراتها العميقة مع الزمن، خصوصا في غياب الاهتمام بالصحة النفسية في الإدارة والثقافة الليبية، وهو الشأن الذي جعل معظم المتضررين نفسيا يلجؤون إلى الخرافة والشعوذة في غياب المؤسسة الطبية الحديثة.

غير أنه، كما يذكر التقرير: " المشاكل والاحتياجات المحددة بين السكان لنتختفي، سواء تم تجاهلها أو جهلها. وسوف تؤثر في مستقبل ليبيا وفي محاولات بناء سلام دائم، واستقرار، وحكم القانون، بصرف النظر عن الشكل الذي قد تتخذه".

يشير هذا التقرير الزاخر بنسب وأرقام مخيفة إلى أن خلاصته اعتمدت على بيانات ما قبل أكتوبر 2013 ، ما يعني أن أرقامه ستتضاعف في العامين التاليين (2014، 22015) اللذين شهدا حالات قصوى من العنف والحجز والتهجير الجماعي، إضافة إلى العنف المروع الذي قامت به جماعات متطرفة وتفرج على مشاهدها المرعبة الكثير من الأطفال.

فقد أجري هذا المسح في فترة كان يعم البلاد سلام نسبي، وبعض النتائج قد لا تعكس الوضع الراهن. وبتزايد وانتشار الصراع العنيف في المدن الرئيسة، يمكن توقع أن خبرة وتأثير العنف سوف يكونان أشد وأعمق. وهذا لا يستدعي فحسب المزيد من المساعدة لمعالجة الآثار الاجتماعية- الاقتصادية والصحية والذهنية، بل يستدعي أيضا إجراء دراسات أكثر تركيزاً تمكن من تأمين مساعدة كافية ومهمة، حين يكون ذلك ممكنا.

مثال ذلك، تبين الدراسة أن أغلب المبحوثين يلجؤون إلى الشبكات الأسرية(72.1%) والأصدقاء في أوقات التوتر والأزمة، وأن شيوخ الدين(24 %) والأطباء الشعبيين(18.1%) يقومون بدور مهم تالٍ لدور الأطباء(43.2%) . فضلاً عن ذلك، حين سُئل المبحوثون عن المساعدة التي يحتاجونها، أكد أغلبهم على العدالة والمعالجة القانونية والتعويض (59.3%) ، يتلوها المساعدة الصحية والطبية(43.8%) . ويشير هذا إلى أن قمع نظام حكم القذافي وعواقبه على السكان لم يُتناول بعد، وفي انتظار حلول سياسية وقرارات وطنية.

انتظار حلول سياسية وقرارات وطنية؟! ومن سيقوم بهذا إذا كانت أعلى السلطات التشريعية التي انتخبت في ليبيا وما يتبعها من سلطات تنفيذية هي التي كانت وراء هذه الكارثة التي ألمت بالمجتمع؟.

أكاد أعتقد جازما أن لا أحد منهم أطلع على هذا التقرير المطبوع في كتاب، بل وأعتقد أنهم أنفسهم في حاجة أيضا لإعادة تأهيل نفسي نتيجة صدمة تعرضوا لها، ليس بسبب الرعب الذي حدث، ولكن بسبب التغير المفاجئ لنمط حياتهم ومداخيلهم، وانتفاخهم بكون مستقبل الأمة أصبح فجأة رهنا برفع أيديهم أو بتوقيعاتهم، ولعل ما يحدث من مهاترات، وسباب مقذع، ومشاجرات يدوية، في هذه الهياكل، أو حتى من بعض أعضاء المجلس الرئاسي المقترح، يثبت أن معظم قادة الدولة يعانون نفسياً، وفي حاجة لتواجدهم في مراكز العلاج وليس أوصياء على مستقبل هذا البلد.