منذ تخرجي من كلية الزراعة بفرع جامعة قاريونس بالبيضاء عام 1983 بعد أن شهدت أحداثا دموية في أبريل، آخر سنة، قضيتها في الجامعة، انقطعت صلتي بهذه الجامعة تماما، إلى أن تم اختياري متعاونا في قطاع العلوم والثقافة مع فريق مشروع ليبيا 2025 رؤية استشرافية عام 2007 المكلف به مركز البحوث والاستشارات بجامعة قاريونس من قبل مجلس التخطيط الوطني برئاسة د. محمود جبريل آنذاك، وجاء هذا التكليف بعد نجاح المؤتمر الوطني الأول للسياسات العامة في ليبيا الذي أقيم في يونيو 2007، وبإدارة د.

علي سعيد البرغثي الذي بث روحا من النشاط في هذه المؤسسة البحثية بجرأته وحنكته الإدارية وروحه العملية.

وجدت هذا المركز خلية من النحل وهم يجهزون لوضع رؤية استشرافية لليبيا تتوخى النهوض بها وفق خطط علمية حديثة تتصدى لعدة قطاعات مركزية ووفق الإمكانات الطبيعية والبشرية للبلد والفرص المتاحة للنهوض بها وسط تحديات عولمية ضاغطة.

أنجز الفريق هذا العمل الجبار في 13 شهرا بعد أن استكتب أكثر من 100 باحث ومثقف ليبي في جميع المجالات المعنية بها الرؤية الاستشرافية، ولأن هذا العمل الذي احتوى في داخله مسارات أساسية لدولة تسعى للاندماج في العالم الحديث، ومن ضمنها إرساء قواعد سياسية جديدة اعتمادا على دستور ديمقراطي وتعددية وإصلاحات جوهرية في مجال الاقتصاد بما يعزز طاقاته التنافسية، كان في الواقع ضد الأطروحات السائدة جذريا وساعيا لتفكيك المنظومة القديمة بشكل علمي وسلمي، واجه حربا شرسة من القوى الثورية إلى أن وصل إلى تمزيقه من القذافي نفسه حين وصلته نسخة منه، قائلا : هل ثمة من يفكر غيري في ليبيا؟. لكنه طُبع في كتاب وبقي كمدونة خطها ضمير علمي وطني، وضع نصب عينيه الوطن وما يزخر به من إمكانات طبيعية وبشرية وأفق نموه وتطوره إذا ما وظفت هذه الإمكانات بأفضل الطرق لاستثمارها.

مركز الاستشارات والبحوث بجامعة بنغازي الذي استطاع في عقديه الأخيرين أن يجسر الهوة بين المجتمع والمؤسسات الأكاديمية

بعد سقوط النظام، وإبان حكومة علي زيدان اعتمد مجلس التخطيط الوطني هذه المدونة كمرجعية للتخطيط المستقبلي، ولكن بسبب ثقافة الولع بالبدايات الصفرية، وبتدخل بعض المتاجرين بالمرحلة، تم وبشكل ارتجالي تكليف فريق آخر بصياغة رؤية سميت مشروع ليبيا 2030 ، ويدرك أي مطلع على قرار وتصور هذه المشروع أن لا علاقة له بالمفهوم الحديث للرؤى الاستشرافية.

عام 2009 ومع عودة المد الثوري إلى الجامعات بقوة، وخصوصا جامعة بنغازي، والذي تمخض عن إزاحة قيادات وطنية في الجامعة واستبدالها بأخرى ثورية، تمت إقالة د. علي سعيد البرغثي وعاد المركز إلى جموده السابق، حتى انطلق من جديد ومنذ بداية حراك فبراير، لينجز دراسات وبحوث واستطلاعات مهمة بعد أن تقلد إدارته التنفيذية د.فتحي المجبري الذي أعاده إلى الزخم السابق.

ولعل ذكر بعض من نشاطاته أثناء الأعوام الماضية يلفت نظر أية سلطة تنفيذية قادمة إلى بيت الخبرة هذا الذي يحوي أرشيفه دراسات وبحوثا وقاعدة بيانات مهمة، مع أفق مستقبلي لمزيد من البحث والدراسة، ومن أهم نشاطاته في السنوات الخمس الأخيرة:
النظم الانتخابية في مصر وتونس، حلقة نقاش حول الغش التجاري، علاقات ليبيا مع دول الجوار بعد ثورة 17 فبراير، مؤتمر تطوير مهنة المحاسبة والمراجعة في ليبيا، ورشة عمل حول القضايا والمواضيع الراهنة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، حلقة نقاش حول النهضة العربية الثانية، الملتقى الثامن للأيام المغاربية، مؤتمر الأحزاب السياسية والبناء الديمقراطي في ليبيا، مؤتمر إعادة إعمار ليبيا، ندوة حول ثقافة البحث العلمي ورأس المال المعرفي، حلقة نقاش حول انتخابات المؤتمر الوطني العام، البرنامج الصيفي الدولي لجامعة بنغازي للريادة والمبادرة في مجال الأعمال، ندوة حول القضاء والعملية الانتخابية، ندوة مؤتمر الاستحقاقات القانونية للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ليبيا حول دستور ليبيا الحرة، ندوة حول العنف والسلوكيات الخطرة عند الشباب، مؤتمر طرابلس حول صياغة الدساتير، ملتقى بناء بنغازي قاطرة اقتصادية.
استطلاع آراء الليبيين حول الدستور: ويستهدف تحديد أهم المسائل الدستورية التي تشغل أهل الرأي والخبرة، وأهم القضايا الحقوقية التي تشكل في تقديرهم مدار انشغال الليبيين.

مسح عواقب التعذيب والعنف المنظم . حيث أجريت مقابلات مع 2692 أسرة ليبية حول خروقات حقوق الإنسان في ليبيا بعد ثورة فبراير.

المسح الوطني للقيم (فبراير 2014) . ويتضمن"المسح الوطني للقيم" الذي طبق لأول مرة في ليبيا تحت إشراف مؤسسة المسح العالمي للقيم، قدرا هائلا من البيانات المعززة إحصائيا، والمتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر بركائز المنظومة القيمية الحاكمة في المجتمع الليبي، وهي بيانات تشكل منجما من المعطيات الإمبيريقية التي يمكن أن تتأسس عليها دراسات علمية رصينة في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية.

استطلاع آراء الليبيين حول الحوار الوطني: مقابلات حول توجهات الليبيين حول الحوار الوطني والمصالحة الوطنية تمت وجها لوجه مع أفراد عينة تألفت من 1235 فردا، وهي عينة تسمح بالتعميم على المجتمع الليبي بمستوى ثقة قدره 95% وهامش خطأ قدره 2.83%.

ترجمة"مشروع الدستور المقارن" الذي يرصد أجوبة 180 دستورا عالميا (من أصل 186 دستورا) عن أسئلة حول مختلف القضايا الدستورية، وقد سلمت منها نسخ لأعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور.

ما يعنيني في كل هذا الإشارة إلى مركز الاستشارات والبحوث بجامعة بنغازي الذي استطاع في عقديه الأخيرين أن يجسر الهوة بين المجتمع والمؤسسات الأكاديمية ويقحم الأكاديميين والبحاث في التعاطي العلمي مع أزمات المجتمع عبر الدراسات المستفيضة وقاعدة البيانات التي يملكها والحلول المقترحة لكثير من الأزمات المزمنة.