Atwasat

ثقافة وهم الواقع (3-5)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 13 مايو 2024, 05:41 مساء
محمد عقيلة العمامي

تفسير ذكي، ومنطقي، لكونه يؤكد واقعا، انتقاه الأستاذ محمد الغامدي للحديث في الباب «6» عن الجسد الآخر، حيث يقول: «الجسد المذكر يمثل اللغة والتاريخ. أما الجسد المؤنث فهو قيمة ذهنية معلقة في فضاء اللغة وفضاء التاريخ»، ويُبرز من العصر الجاهلي: الموؤدة والمعشوقة والملكة والصنم المعبود كنماذج معلقة في الفضاء «اللغوي والتاريخي»، وهي، مثلما قال، لم تتخلق من ذات المرأة أو أفعالها، ولكن الذكور هم من ابتكروها، وجميعها في صيغة المفعول به، والفاعل خلقته الثقافة.

ويضيف أنه بذلك أمسى الجسد المؤنث كائنا ذهنيا متخيلا، لم يعد محسوسا، ولعل الاستدلال بالموؤدة يضفي تأكيدا لرأي الكاتب، فالبنت لا توأد لأنها فعلت شيئا، لأن عمرها لا يسمح لها بفعل شئ! وهكذا أصبحت مفعولا به، فلا أصوات سمعناها من «المعشوقات الهلاميات» مثل ليلى وعزة وبثينة، ولا من اللات والعزى ومناة، لأن اللغة فرضت عليهن السكون، وجعلتهن في «سماء الخيال المجنح>>

والحال لا يختلف كثيرا في الفضاء الأوروبي الذي لم يتحرر من خزعبلات ومعالجات المؤنث إلا خلال القرنين الماضيين. ففي عصور أوروبا المظلمة، كانوا يقيدون المرأة سليطة اللسان فوق كرسي، ويغطسونها في نهر مرات متكررة، لإطفاء سلاطة لسانها! لأنه ليس مطلوبا منها استعماله، لأنه أداة مذكرة، وإن تكلمت يعني أنها كائن محسوس، وهو الذي يتعين أن يكون معلقا في فراغ خيال المذكر.

ويوضح الكاتب، في هذا الفصل العجيب، أنه لم يبرز في حكايات الحب الخالدة الكبيرة سوى تلك التي لم تنته بالزواج، لأن زواجها حضور واقعي مع المذكر، وبالتالي تنتهي شهرة المعشوقات اللواتي ورد ذكرهن بعاليه، بل أضاف إليهن «جولييت» شكسبير! باعتبار أن حال الأنثى كان واحدا مفعولا به معلقا في فضاء اللغة!

ويختتم هذا الباب برواية «القزويني» في آثاره (ص. 33) عن جزيرة في بحر الصين تقطنها نساء فقط، تلقحن الريح، ويلدن نساء فقط، وتروي الرواية عن رجل اختطفته نساء تلك الجزيرة، ولكنه هرب منها إلى بلاد الصين، وحدثهم عنها، وبحثوا عنها ولكن لم يعثروا عليها! ويرى الكاتب أن جزيرة القزويني المؤنثة هذه ليست سوى جسد مؤنث، يتعين إقصاؤه، فهي مجهولة حتى من ملك الصين الذي يملك ذلك البحر! إنها مجرد مجاز.. وهم يدغدغ مشاعر الرجال. وفي إقصاء المؤنث، وتحويله إلى متخيل غير واقعي! يبرز أن طبع الثقافة الذكورية يعمل على إقصاء الجسد المؤنث عن الواقع، لتتحقق للذكور غايتهم في التوهم، وأيضا في إقصاء الذات المؤنثة، وتحويلها إلى كيان غير واقعي، بل تظل مادة للخيال، حينها تكون الأنوثة جذابة ومرغوبة، ولكن تتبخر هذه الجاذبية فور أن تصبح واقعا يواجه الذكر ويجادله.

لذلك يفسر كثرة الطلاق في المجتمع الأمريكي، المعروف بحجم تحضره، إذ تنتهي خمس زيجات بطلاق أربع منها في السنوات الثلاث الأولى من هذا الزواج، فالرجل الأمريكي لم ينتبه إلى قوة التأثير الحضاري الذي جعل المرأة لا تسير وراء الرجل خطوة واحدة، هذا إن لم تتقدمه! لم ينتبه إلى أن «جولييت» التي يبحث عنها في زوجته لم تعد في خياله مجرد بطلة مسرحية، بل أنثى واقعية تشاركه قرار إعلان الحرب!

والحقيقة أن نسب الطلاق في العالم كله ارتفعت، وإن كانت الحضارة الغربية تصدرت هذه النسب، لأن الأنثى لم تعد مجرد مفعول به معلق في فضاء الرجل. إن الرجل الأمريكي على سبيل المثال لم يطلق زوجته، وإنما يطلق ثقافة لم يألفها حتى بعد أن عايشها.