Atwasat

ترحال: الكرم العربي المعاصر!

محمد الجويلي الإثنين 18 مايو 2015, 08:58 صباحا
محمد الجويلي

منذ أيّام كنت في مقهى في باريس غير بعيد عن شارع الشانزليزيه، مقرّ الرئاسة الفرنسيّة وسيادتها، الذي يرتاده السواح العرب، سواء كانوا من الأثرياء الباحثين عن متعة الحياة وفرحتها أو من الهامشيين الفقراء رجالا ونساء من صائدي الفرص الذين ألقت بهم أوطانهم في شوارع باريس الفاخرة، بعضهم يستثمر الحيلة والمكر، ولربّما ذهب إلى حدّ احتراف اللّصوصيّة، والآخر يقتات من جسده ليكسب ما به يحافظ على بقائه، بقاء بائس على أيّ حال ويثير السخط والحنق، أتجاذب أطراف الحديث في مجالسة ومؤانسة طويلة مع صديق مثقف عراقي قضّى عشرين عاما في الغربة في عهد حكم صدّام حسين خوفا من التنكيل والملاحقة وسيقضّي أكثر منها إذا كُتب له طول العمر،كما يقول، بعد أن وقع العراق فيما هو أسوأ من هذا العهد بكثير، ما معنى أنّ قدميه لن تفرحا بوطء تراب العراق أبدا، فإذا بثلاثة شبّان عرب يقبلون على طاولة حذونا وملاصقة لنا ويمكثون حوالي ساعة احتسوا فيها ما طاب لهم من الشراب وقبل أن يهمّوا بالانصراف وبعيد تسديد فاتورة استهلاكهم وقف أحدهم ونادى النادل الفرنسي وأعطاه"بوربوار" كما يُقال في فرنسا، أي هبة تتمثّل في ورقة نقديّة بعشرين يورو. قفز النادل من الفرحة محمرّ الوجه قائلا"مرسي مرسي بوكو" شكرا، شكرا جزيلا، وأخفى في رمشة عين الورقة في جيبه كمن لا يريد أن يراه أحد أو مخافة أن يتراجع الحريف عن هبته أو كمَن انتشل نقودا من جيب شخص وأخفاها بسرعة حتّى لا يفتضح أمره!

لم يتمالك صديقي العراقي نفسه وصرخ في وجه الشاب العربي قائلا"هذا كان يرضى منك بيورو واحد، فإذا بك تعطيه عشرين يورو، أي أكثر من ثمن ما احتسيتموه من العصائر. ما بِك هل جُننت؟" قاطعه الرجل"ما دخلك أنت ؟ هذه أموالي وأنا حرّ في التصرّف فيها كما أشاء. ثمّ هي إكراميّة... الشاب لطيف ومهذّب وأردت أن أكرمه" "لا" أجابه العراقي. "هذا لا علاقة له بالإكرامية والكرم. هذا تبذير وإسراف. لو اشتريت بهذا المبلغ كتابا حول العقل الفرنسي لكان أنفع لك. تأكّد أنّه سيضحك منك وعليك في خُلوته ولن يفعل مثلك لو ذهب لاحتساء قهوة في مقهى آخر في يوم من الأيّام حتّى ولو كسب مال قارون. وأنا أعرف بالفرنسيين والأوروبيين منك لأنّني قضيت أكثر من عمرك في هذا البلد".

انصرف الشاب متمتما ومهمهما في كلمات لم تصل إلى آذاننا وصاحباه ينتظرانه غير بعيدين عنّا شاخصين بعيونهم فينا ولعلّه ندم على صنيعه، بعد أن استمع إلى حجج دامغة تشكّك في فضيلة فعله. أعادني هذا المشهد إلى حوالي الثلاثين سنة إلى الوراء لمّا كنت طالبا في باريس وأعمل لتوفير لقمة العيش، كالعديد من طلبة المغرب العربي غير الممنوحين من بلدانهم، في الاستقبال بالفنادق ليلا بما في ذلك في فندق بالضاحية الباريسيّة نفسها، أي ساهرا على راحة النزلاء ليلا كما تنصّ على ذلك التسمية الفرنسية لهذا العمل(Veilleur de nuit) بحيث وقفت على العديد من مشاهد"الكرم العربي" التي تصلح أن تكون مادة لأكثر من مقال أبطالها عادة من الأثرياء العرب من المحيط إلى الخليج على حدّ السواء.

شاب من المغرب العربي أُرسل إلى باريس للإعداد البدني والتحضير لمنافسة دوليّة في الجري وألعاب القوى احتالت عليه في غفلة من مرافقيه فتاة من أوروبا الشرقية وقع في غرامها ليهديها قلادة من الذهب، علاوة على هدايا أخرى وتسلبه تبعا لذلك كلّ ما بحوزته من الأموال موهمة إيّاه أنّه فارس أحلامها الذي لن يجود الزمان عليها بمثله مرّتين قبل أن تطلق ساقيها للريح وتندثر في طبيعة فرنسا الواسعة ولا يُعثر لها على أثر. بقيت وأنا أغلي كالمرجل لعدّة أيّام حين تناهى إلى مسامعي خبر أحد حرفاء الفندق الذي كنت أعمل فيه من العرب كان يوزّع أمواله يمنة ويسرة على كلّ من هبّ ودبّ فيه من عاملات النظافة وموظفي الاستقبال، بل وصل به الأمر إلى إغداق ماله على بعض الحرفاء مثله من المتساكنين حتّى أضحى موضوع تندّر وسخرية تجاوزته إلى العرب جميعا، هؤلاء الحمقى الذين يصرفون دون حساب ويبذّرون أموالهم دون ضمير ولا حسيب ولا رقيب!

كلّ هذا يتمّ باسم الكرم العربي ونتيجة تمثّل خاطئ ولا تاريخي(anachronic) لمفهوم الهبة أو العطاء الذي تواضع الانتروبولوجيون

كلّ هذا يتمّ باسم الكرم العربي ونتيجة تمثّل خاطئ ولا تاريخي(anachronic) لمفهوم الهبة أو العطاء الذي تواضع الانتروبولوجيون على أن لا مجتمع يخلو منه وإن كان يختلف من مجتمع إلى آخر باختلاف الثقافة، علاوة على أنّ تمثّله في تغيّر مستمرّ وصيرورة لا تنتهي بتغيّر الأحوال والظروف في المجتمع الواحد بعينه. الحقيقة، فإنّ ما هو كونيّ في الكرم ومفارق لكلّ المجتمعات والثقافات هو طابعه الفلسفي، ما يجعله يلتبس بالتبذير والإسراف ولربّما العقد النفسيّة المرضيّة، هذا إذا لم تكن الأمراض العقليّة وحتّى ما يشبه الجنون عندما لا يكون نابعا من العقل وخاضعا لمبدأ التعادليّة. هناك العديد ممّن يبدون في الظاهر أنّهم كرماء يغدقون المال على الناس ليس محبّة فيهم، وإنّما رغبة في التميّز والشهرة وفي الكثير من الأحيان بحثا عن وجاهة اجتماعية وحظوة ولربّما سلطة سياسيّة، لا سيما إذا كان ذلك متزامنا مع انتخابات للفوز بمقعد في برلمان أو حكومة، فلا يعطون لله في سبيل اللّه وإنّما للتحكّم في رقاب الناس والسيطرة عليهم، والمثل الشعبي يقول"وكّل لبطينة تستحي لعوينة". وخلاصة الأمر لا بدّ من توفّر شرط التعادليّة في فعل الكرم وفي كلّ الأفعال التي تواضعت الإنسانيّة على أنّها فاضلة. فأنت إذا كنت ميسور الحال وليس مفلسا بالطبع ووزّعت أموالك في عائلتك ذاتها على أبنائك أنفسهم، فما بالك مع جيرانك وأصدقائك، بمناسبة وغير مناسبة وكلّما خطر على بالك أو كلّما طلبوا منك ذلك، فإنّهم على الأرجح لن يتمثّلوا فعلك باعتباره كرما وجودا وإنّما بوصفه بلها وغفلة وحمقا منك. "من يغالي في طيبته فهو أحمق، غبيّ"( Trop bon ,trop con) كما يقول المثل الفرنسي.

فأن تكون كريما في هذه الحالة هو أن تضع"نًعَمْ" حذو"لا" دائما وأبدا، أي أن تظهر الاستعداد للعطاء بقدر الاستعداد للمنع أو أن تعطي مرّة حين تعتقد أنّ العطاء في محلّه وترفضه حينما لا يكون كذلك، وبلغة المعتزلة وعلى لسان الجاحظ في نظريته في دواعي الفعل"ينبغي أن تكون المُكرِّمات على قدر المُبخِّلات" أي أن تكون دواعي الفعل على قدر دواعي نقيضه، بمعنى دواعي الكرم في تعادل مع دواعي البخل حتّى ننعت فعلك بالكرم. وحتّى نعطي مثالا على ذلك من وحي الساعة نسوق مثال شخص وهو يهمّ بالتكرّم ببعض ماله لأحدهم، فلا بدّ أن تتعادل في نفسه في اللحظة ذاتها دواعي الكرم كأن يكون المتكرّم عليه صديقا حميما وضيفا حلّ من بلد بعيد وفي حاجة ماسة إلى المال مع دواعي المنع والإمساك كأن يكون المضيف نفسه في حاجة إلى المال للإنفاق على عياله واستحضار أن يترك هؤلاء في خصاصة وحرمان في حالة تفريطه في أمواله لضيفه، ما يجعله يبحث عن نوع من الوفاق(compromise) بين دواعي العطاء ودواعي الإمساك فيتكرّم عليه بالقدر المحسوب حسابا دقيقا من المال الذي يجعله يقوم بواجب الضيافة دون الإخلال في ذات الوقت بواجب إعالة الأبناء وعدم إهمالهم. هكذا يكون هذا الرجل كريما ومثله عدد لامتناه من الكرماء إذا ما توفّرت هذه القاعدة و عدد لا متناه لا يُحصى ولا يُعدّ من المبذّرين والمسرفين في انعدامها. تبذير الأموال العربيّة يتواصل في سائر أنحاء العالم باسم قيمة الكرم، وما شاهدته بأمّ عيني في المقهى الباريسي إلّا عيّنة بسيطة من ذلك. فما العمل؟