Atwasat

تجليات الصورة الشعرية (قراءة في ديوان هدى عز الدين محمد «بطائن الإدراك»*)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 12 مايو 2024, 04:59 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

تتميز الشاعرة المصرية هدى عز الدين محمد بصياغتها صوراً شعرية مبتكرة تفاجئ القارئ، دون أن تكون غريبة أو غرائبية. هي صور «مشكَّلة» وليست «منحوتة». ونعني بكونها «مشكلة» أن بها قدراً من الانبثاقية والمطواعية، ونعني بـ«منحوتة» أن فيها قدراً من التعمل وحتى التعسف.

وتأخذ الصورة عند هدى عز الدين محمد تلوينات وتمظهرات متنوعة.

لكننا سنركز هنا، في أمثلة قليلة، على تجليات محدودة من تجليات الصورة لدى الشاعرة..

فهناك ما أحب أن أسميه (إذا جاز التعبير طبعاً) الصورة الارتدادية. أي الصورة التي ترتد، أو تنعكس، على ذاتها.

وسنبدأ من عنوان الديوان «بطائن الإدراك» وهو عنوان إحدى القصائد الواردة فيه.

فهنا أمامنا صورة من مفردتين، مضاف ومضاف إليه. لدينا «بطائن» جمع بطن، وليس «خفايا». أي لدينا طبقات متراكبة تابعة إلى الإدراك الذي «يستبطنها». أي يكتشفها ويكشفها. ولو قلبنا الصورة وجعلناها «إدراك البطائن» لن يتغير المعنى. فمركز الثقل في الصورتين هو مفردة «الإدراك» الفاعل دائماً في «البطائن». وكأننا بهذه الصورة تقف أمام مرآة، بحيث سواء نظرنا إلى الصورة خارج المرآة أو انعكاسها داخلها لن نجد فارقاً بين الاثنتين. وعليه يمكن تسمية هذه الصورة أنها صورة «مرآوية».

أحياناً يضاف إلى ارتدادية الصورة، أو مرآويتها، بعد تناقضي يجعلها أكثر لفتاً للمخيلة، من مثل الصورة التالية:
أمارس صدقي بمنتهى الكذب** (ص110)
فلو عكسنا هذه الصورة وقلنا:
أمارسي كذبي بمنتهى الصدق
لما تغير المعنى، إضافة إلى أن هذه الصورة تحمل بعداً تناقضياً واضحاً يتمثل في تبادل الأدوار بين الصدق والكذب، حيث يمكن أن يقوم أي منهما مقام الآخر.
هناك أيضاً صور تحمل تناقضاً، دون أن تكون مرآوية، من مثل:
النسيان شرب مخدراً مسموماً (ص17)

فإذا أخذنا في الاعتبار أن وظيفة النسيان تخدير الذاكرة، فإن شربه مخدراً مسموماً هنا يعني موته، وبالتالي إيقاظ الذاكرة وحضور الذكريات. أي أن وظيفة المخدر هنا، من خلال تناول النسيان له، هي الإيقاظ..
هناك أيضاً ما أحب أن أسميه «الصورة الانعطافية» (ودائماً إذا جاز التعبير)، من مثل هذه الصورة:
فضحكت السنونُ
وسخرت من إرثي النحيلِ (ص85)

كان أمام الشاعرة مفردة «القليل» أو «الضئيل». لكن اختيارها مفردة «النحيل» انعطفت بالجملة من تعبير رياضي مجرد، إلى صورة بصرية، بما أن «النحالة» تدرك بالبصر.
نود أن نختم بالعودة، لأغراض هذا السياق، إلى صورة «بطائن الإدراك» التي تناولناها أعلاه. فبما أن مفردة «بطائن» ذات طبيعة بصرية فإن إضافة مفردة «إدراك» إليها، حولته، أو انعطفت به، من مفهوم مجرد إلى هيئة بصرية، بما أنه يحتوي «بطائن».

* هدى عز الدين محمد «بطائن الإدراك». ما هي للنشر والتوزيع (د. م). (د. ت) وأرقام الصفحات في المتن تحيل إلى هذه الطبعة.
** لم نرَ داعيا إلى ذكر عناوين القصائد كما أننا لم نلتزم بتشكيل الحروف مثلما فعلت الشاعرة.