Atwasat

البدوي حارس اللغة

عمر الكدي 2 يوم
عمر الكدي

كان العرب يتحدثون لغتهم بفصاحة ودون لحن منذ مئات السنين قبل الإسلام، ولكنهم لا يعرفون الفاعل والمفعول به، ولا كان وأخواتها وإن وأخواتها، وما يرفع المبتدأ وينصبه، وفي عصر التدوين وضع النحو ليضبط اللغة، بعد أن دخلت شعوب كثيرة إلى الإسلام لم تكن لغتها العربية، فلاحظ علي بن أبي طالب اللحن في لغة المسلمين الجدد فطلب من أبي الأسود الدؤلي وضع إشارات على الحروف، فوضع الضمة والفتحة والشدة والكسرة والسكون، وفيما بعد وبمبادرة من الحجاج بن يوسف وضعت النقاط فوق وتحت الحروف، وفي الكوفة والبصرة ظهرت مدرستان لتقعيد اللغة العربية، وهناك ظهر النحو كما نعرفه حتى اليوم.

والفرق بين المدرستين أن البصريين كانوا أكثر تشددا من الكوفيين في الأخذ من المصادر البدوية، ويقول شوقي ضيف في كتابه «المدارس النحوية»، فالبصريون كانوا يفخرون على الكوفيين بقولهم «نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ».

وهذه الظاهرة ما زالت موجودة حتى اليوم، إلا أن لهجة المدينة انتصرت وأصبحت هي السائدة، ولكن بنية اللغة العربية الفصحى ظلت كما هي يحتلها البدوي بالكامل، ولا أدري أين قرأت أن الخليل بن أحمد سئل من أين أتيت بعلمك هذا، فأجاب «من البدو البوالين على أعقابهم فإن شئت فخذه وإن شئت فذره»، والخليل نحوي بصري وهو واضع علم العروض المولد عام 100 هجري، لا يخفي مثل غيره من البصريين تهكمه من البدو، وهي ظاهرة عجيبة لا نلاحظها إلا في الثقافة العربية، فالبدو الأقل تحضرا هم من يعطي العلم لأهل المدن، وفي مصر يعترف الجميع بأن لهجة الصعيد أقرب إلى العربية الفصحى، ومع ذلك لا يكف المصريون عن التنكيت على الصعايدة، عكس الثقافات الآسيوية التي تحترم أسلافها إلى درجة التقديس، وإذا عدنا إلى المعاجم لنعرف معنى أي كلمة، سيخرج علينا ذاك البدوي آكل الضب والجرابيع، الذي وضعه النحاة البصريون ليفسر لنا معنى الكلمة.

والجابري الذي يؤكد أن البدوي هو صانع اللغة، لا يذكر كيف كانت لغة أهل المدن وهم يزاولون مهنا غير موجودة في البادية، وماذا يطلقون على الأدوات التي يستخدمونها في الهندسة المعمارية مثلا، ولا ماذا أطلقوا على الأدوات التي استخدموها في مختبرات علم الكيمياء، وكيف فعلوا مع المراصد الفلكية، بالتأكيد هذه المرة لم يعودوا إلى ذلك البدوي فليس لديه ما يقوله.

في كل المعاجم العربية إذا أردت أن تعرف معنى الكلمة عليك أن تعيدها إلى الجذر الثلاثي، فمثلا كلمة «حساب» تعود إلى الجذر الثلاثي «حسب»، ومنها تشتق ما بين ست إلى ثمان كلمات جديدة، مثل حساب ومحاسب وحسبة ومحسوب وحسب بمعنى وفق وتحسب ومحسوبية وحاسوب، وهي ميزة عظيمة تميز العربية عن غيرها من اللغات، وهي قدرتها على الاشتقاق من الجذر الثلاثي، بحيث يجعلها لغة غنية جدا بمختلف الدلالات، بغض النظر عن تخلف الناطقين بها وعدم قدرتهم على تطويرها، بحيث يشتقون كلمات أكثر لمسايرة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يمر به العالم.

ولكن هذا النظام ينطبق عليه مفهوم الجابري في نظام البيان، فالعودة إلى الجذر الثلاثي هو قياس الشاهد على الغائب، وهذا ينسحب على كل شيء. العودة إلى الجد الأول والعودة إلى السلف الصالح، وهذه العودة لا فكاك منها لأنها في قلب النظام المعرفي، وفشلت كل محاولات الفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام في التحرر من حارس اللغة آكل الضباب واليرابيع، وعندما هجمت علينا الحضارة الحديثة بآلاتها لم نجد عند البدوي ما ينجدنا، فهو لم يستخدم في زمنه أي آلة، وكانت مشكلة في لغة الضاد، وأخيرا اجتهد النحاة فوضعوا ثلاثة أوزان لاسم الآلة وهي مفعل مثل مبرد، ومفعال مثل منشار، ومفعلة مثل مكنسة، ثم أضاف مجمع اللغة العربية بالقاهرة وزنا رابعا، وهو فعالة مثل غسالة، ثم أضاف ثلاثة أوزان أخرى وهي فعال وفاعلة وفعول مثل رباط وساقية وساطور، وثمة شذوذ عن هذه القاعدة والأوزان مثل فأس وسكين ومنخل وقدوم فتحفظ دون وزن.

نلاحظ أن جميع الآلات السابقة غير ذاتية الحركة، وعندما وصلت الآلات ذاتية الحركة أقفل المجمع أبوابه وسكت عن الأوزان المباحة. اليوم نسمي السيارة عربية في مصر، وكرهبة في ليبيا وتونس، وأوتومبيل في الجزائر والمغرب وموريتانيا، ونسمي جميع قطع الغيار حسب لغة المستعمر الذي استعمر كل بلد، ومع ذلك ظل البدوي محتفظا بوظيفته كحارس للغة، ولعله نصح مجمع اللغة بأن يترجم كلمة «سندوتش» إلى شاطور ومشطور وما بينهما كامخ، ولا أدري كيف سيتصرف العاملون في مطاعم ماكدونالد، عندما يصل الدور في الطابور الطويل لمتقعر يطلب شاطر ومشطور وما بينهما كامخ بالجبنة وزيادة مايونيز وكاتشب، عندها سيتحسس البدوي لحم الضب الذي دسه في جيب جلبابه.

كانت مدرسة غريان الثانوية يدرس بها جميع طلبة الجبل الغربي، من نالوت إلى مزدة إلى غريان، وكان الطلبة الأمازيغ وطلبة غريان لا ينطقون ثلاثة حروف وهي «الظاء» و«الثاء» و«الذال»، وكنا نسخر من طلبة الأصابعة والقواليش وبدو جنوب غريان، لأنهم لا ينطقون هذه الأحرف الثلاثة، بينما كانت أمي وجيلها ينطقون هذه الحروف وهم لم يذهبوا إلى المدرسة، وهذا ما نلاحظه اليوم في لهجات المدن ليس فقط في ليبيا وإنما أيضا في مصر. هل هي محاولة لا شعورية للتخلص من سطوة ذلك البدوي، أم أن نظام التعليم انهار ونتج عنه هذا اللحن؟.

يؤكد الجابري، وهو من أصل أمازيغي، في مشروعه الكبير، أن البدوي صانع اللغة وأن نظام البيان بالرغم من تدوينه في المدن في القرنين الهجريين الأولين، إلا أنه صنع بالكامل في البادية، وكان سكان المدن يرسلون أطفالهم قبل الفطام إلى البادية، لتقويم لسانهم وأيضا لتقويم بدنهم، وهذا ما حدث أيضا مع الرسول عندما أخذته مرضعته حليمة السعدية إلى باديتها.

كلمة عرب لا تدل على جنس بعينه مثل كلمة فرس ترك كرد وروم، فليس هناك نقاء عرقي بين العرب وإن ادعوا عكس ذلك، فغريان مثلا قبل ما بين أربعمائة إلى خمسمائة سنة لن تسمع فيها كلمة عربية واحدة إلا أثناء الصلاة، والعرب خليط من العرب العاربة والمستعربة، ولغتهم جاءت من الأكادية والأرامية والسوريانية والنبطية والحميرية والسبأية والعبرية وهي جميعا لغات اشتقاقية، وكلمة عرب تشير إلى البيان والفصاحة وليس إلى الجنس، ونقول «أعرب لك عن تقديري» بمعنى أبين وأوضح، وعكسها كلمة «عجم» بمعنى عدم الفهم، ولكنها تعني أيضا «عجم الحرف أو الكتاب أزال إبهامه بالنقط أو بالشكل».

ومن هنا جاءت كلمة معجم أي القاموس، فهل يا ترى عجم نحويو البصرة والكوفة اللغة العربية؟ بمعنى أزالوا غموضها بالحركات التي وضعها أبوالأسود الدؤلي، أم جعلوها عجماء كما نرى بوضوح في شوارع المدن العربية، بل في وسائل الإعلام، وحتى الآن لا أدري لماذا تصر الصحف المصرية على عدم وضع نقطتين تحت حرف الياء في آخر الكلمة، ولماذا يصر المغاربة على تحويل حرف التاء إلى طاء، وهل سيحدث للعربية ما حدث للمرحومة اللغة اللاتينية؟ التي تخلت عنها الشعوب الأوروبية لصالح لهجاتهم المحلية، حتى جاء القس مارتن لوثر فترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية.
ولكن، هل سيبقى البدوي حارس اللغة؟