Atwasat

قامة

صالح الحاراتي 2 يوم
صالح الحاراتي

كتبت يومًا عن «بخس الناس أشياءهم» لأننا لا نشكر أحدًا إلا بعد مغادرته الحياة، ورأيت هنا أنه من الواجب الإشارة إلى عكس ذلك السلوك وهو المبالغة والإطراء في المدح والتقدير، ولأن المدح والثناء من الأمور التي تُسَر بها النفوس غالبًا، ويفترض أن تحفزها على زيادة العطاء والمحافظة عليه ولكن...

بعد انتشار ظاهرة احتفالات التكريم المجاني وتقديم صكوك المبايعة و«هوجة تقديم الدروع» وغير ذلك من احتفالات هزلية، مع ما يرافق ذلك من ترديد تلك العبارات المكررة حد الملل، عبارات يرددها البعض من باب المبالغة في الثناء على شخص ما حتى صارت كلمات بلا روح، وتقديري أنها تدخل ضمن منظومة «كلام الرياء»، والتقدير المبالغ فيه بغرض إضفاء التضخيم والتهويل والتمجيد لشخص ما، وكما تعودنا على صيغ المبالغة والشعارات، فنحن نحب بعنف ونكره بإفراط كما يشهد به واقعنا، بينما الثناء يفترض أن يكون صادقًا ومبنيًّا على أسس حقيقية، ولو كان مبالغًا فيه وغير صادق، فمصيره الدخول في جب النفاق.

لدينا مثلًا عبارة فلان «قامة علمية سامقة»، وعلان «رجل بحجم وطن» والمدينة العلانية مدينة بحجم وطن وهكذا.. والحقيقة أن الوطن أكبر من أي إنسان مهما علا شأنه، وأكبر من أي مدينة.. لأن كل المدن والمناطق يوجد بها الرجال الشرفاء والكفاءات المخلصة وكذلك نجد الأوغاد والمجرمين.!

في كل مكان يوجد الصالح والطالح، ولذا ليس من الصواب أن (نصف بالتعميم) أي مدينة بأي صفة سواء كانت خيرًا أو شرًّا.. إنها مبالغات أظنها بقية باقية من مفردات زمن مضى، زمن الشعارات الفضفاضة زمن «المفكر الأول والصقر الوحيد» إلخ.

بالمناسبة القَامَةُ: وحدةُ قياس طولُها سِتُّة أقدام تُستخدَمُ عادةً في قياس أَعماق البحر.. وقامة الإنسان تعني طوله، قدّه، قوامه.. فالقامة المجردة لا تعطي أي ميزة أو فضيلة.

أعود لمفردة «قامة» التي بدت لي من الناحية الهندسية أن لها علاقة بـ«الطول»، وليس كل طويل حسنًا، أما في زماننا القديم فيبدو أن اهتمامهم كان بـ«العرض» فيقولون مثلًا (بحر العلوم) في إشارة لاتساع عرض البحر وبالتالي حجم العلم الذي عليه ذلك الموصوف.

ليس من الحكمة فقط، بل من الواجب ألا ننزع عن أي فرد في المجتمع إنسانيته بحيث نعطيه ألقابًا وصفات نكاد نقترب بها من المثالية.. فكل إنسان لا ينجو من الخطأ والعيوب وصفة الضعف البشري تلازم كل إنسان مهما علا شأنه ويجب أن تكون تلك الصفة حاضرة على الدوام عند الحديث عن أي شخصية «تاريخية» أو «معاصرة» يقدمها البعض لنا باعتبارها كاملة و«مثالية»، ولعلنا نلاحظ ما نحن عليه من تعظيم لحكامنا «خوفًا أو طمعًا» وفق تجاهلنا لصفة الضعف البشرى، فهم بشر غير معصومين من الخطأ ولعل تاريخنا يزخر بالمداحين المنافقين الذين مهدوا الطريق للحكام الطغاة ليمارسوا علينا استبدادهم في أبشع صورة.. فقامة وطنية/ أو قائد ملهم ورجل بحجم وطن.. إلخ؛ قد تدفع بصاحبها إلى الاستعلاء وإلى الطغيان والاستبداد، وكما يقال «الشعوب تصنع طغاتها».

المبالغة في المدح أو الذم لا تعبر عن الحقيقة، فالقبح درجات والحسن درجات شكلًا وموضوعًا، وأظن أنه لا يوجد إنسان في هذه الحياة يمثل الشر المطلق أو الخير المطلق.. وما ادعاء البعض بالمثالية والصوابية المطلقة لأي إنسان، والإطراء الذي نسمعه في مناسبات عديدة، إنما هو كلام جميل قد لا يرتبط كثيرًا بواقع الحال، فالمبالغة في الثناء لأجل رفع منزلة إنسان ما هو إلا نوع من الكذب، خاصة إذا علم الناس خلاف ما يقال، وقد يكون مجاوزة المدح من خلال الإطراء ليس بدافع المحبَّة والتعظيم والتقدير، وإنما قد يكون رجاء لمنفعة.

الحياة لن تخلو يومًا من أهل التطرف «في المدح والقدح» ولن تخلو من المنافقين المداحين بدرجات ومراتب وأنماط عديدة.

أتذكر هنا قصة ذلك الأعرابي وكان معوج الفم الذي وقف أمام أحد الولاة وألقى عليه قصيدة في الثناء عليه التماسًا لمكافأة، ولكن الوالي لم يعطه شيئًا وسأله: ما بال فمك معوج؟ فرد الشاعر: لعله عقوبة من الله لكثرة الثناء بالباطل على بعض الناس.

إن زيادة الثناء بغير استحقاق، تملق واستجداء، وحجب الثناء مع استحقاق، حسد وافتراء.