Atwasat

العقل المعتقل

عمر الكدي الأحد 16 يونيو 2024, 01:13 مساء
عمر الكدي

اشتقت كلمة عقل من عقل البعير، أي قيده ومنعه من الحركة، وأيضا بمعنى تقييد وتحديد المفاهيم. المعنى الأول سلبي، فهو يقيد ويمنع من الحركة، والمعنى الثاني إيجابي، فهو يساعد على التمييز بين الصح والخطأ، وهذا هو الفرق في استخدام العقل بين المعتزلة والفلاسفة من جهة، وبين الفقهاء والمحدثين أو ما عرف في التراث الإسلامي بـ«أهل العقل وأهل النقل». وبالتأكيد، فإن ترجمة الفلسفة اليونانية لها أكبر التأثير في بلورة المفهوم الثاني لكلمة عقل، خاصة المنطق الصوري الذي وضعه أرسطو. ففي اللغة اليونانية، استخدمت كلمة «لوغوس»، التي تعني عقل، في مواجهة كلمة «ميتوس»، التي تعني الأسطورة والخرافة عندما اكتشف الإنسان أن الأسطورة والخرافة بنية غير منطقية، ولكن حتى كلمة «لوغوس» كانت ملتبسة منذ أن صاغها أفلاطون، وحملت مدلولات مختلفة.

ولعل أرسطو عندما وضع المنطق حاول تقييد هذه الكلمة، وربما أيضا لمواجهة السفسطائيين الذين بإمكانهم أن يستخدموا المعنى وضده في الوقت نفسه، ولهذا فكر في وضع آلية تمنع العقل من الوقوع في الخطأ استنادا إلى ثلاثة قوانين أساسية، وهي قانون الهوية، فألف تساوي ألفا ولا شيء غير ألف، والقانون الثاني هو قانون التناقض، فلا يمكن لألف أن تساوي أي حرف آخر حتى وإن تشابها في الشكل والنطق، بما في ذلك الألف نفسه إذا كان مضبوطا بهمزة فوقه أو تحته، والقانون الثالث هو قانون الوسط المرفوع، فإذا صدقت قضية أو صدقت نقيضتها فلا مكان لقضية أخرى بينهما. مثلا إذا صدقت أن الرجل ميت فلا يمكنك أن تصدق أنه حي، فهما متناقضتان إذا صحت الأولى بطلت الثانية.

تمسك المعتزلة بخلق القرآن، لأنه محدث، بينما تمسك الفقهاء بأنه قديم. وقال المعتزلة إن القرآن مرتبط بأسباب النزول، فتبت يدا أبي لهب أحدثت ونزلت في زمن أبي لهب، وليست موجودة منذ القدم، أي قبل خلق النجوم والكواكب، وتمسك المعتزلة بأن الإنسان مخير وليس مسيرا، حتى لا يتناقض ذلك مع عدل الله. بينما قال الفقهاء إن الإنسان مسير، وقد قدر الله مصيره منذ القدم، بما في ذلك هل سيعاقب أو سيثاب.

وإذا طبقنا قوانين المنطق الثلاثة على أقوال الفقهاء فسنجدها متناقضة، فهم يقولون إن الألف هي الألف وفي الوقت نفسه هي الياء، وإن الرجل حي وميت في الوقت نفسه، وهم يؤكدون أن الله قديم بلا ابتداء، وعندما يقولون إن القرآن أيضا قديم فهو بلا ابتداء دون أن ينتبهوا إلى أن ذلك يمثل انتهاكا لمبدأ وحدانية الله، ويعد تناقضا مع قوله «أنزلناه بلسان عربي مبين»، وهم يعلمون أن اللغة العربية محدثة وليست قديمة، وتطورت عن الآرامية والأكادية والعبرية ولغات اليمن.

فيما بعد ظهر أبو الحسن الأشعري ليحاول التوفيق بين التيارين، بعد أن قضى سنوات طويلة في صفوف المعتزلة، بل وصل إلى مركز مرموق كمقرب لشيخ المعتزلة أبي علي الجبائي قبل أن ينشق عنهم، وهو ينحدر من نسل الصحابي أبو موسى الأشعري الذي كان وكيل علي بن أبي طالب في المفاوضات التي عقبت موقعة صفين، بينما كان عمرو بن العاص وكيل معاوية بن أبي سفيان، وانتهت المفاوضات بخلع علي ومعاوية من جانب أبي موسى.

أما عمرو بن العاص فقال: لقد خلعت أيضا علي ولكني أثبت معاوية، في خيانة صريحة لروح الاتفاق. وحاول أبو الحسن الأشعري خلع المعتزلة، وخلع أيضا المتطرفين من الفقهاء لمصلحة صيغة ملفقة من رأي الطرفين، أي أنه تجسيد للمعنى الأول لكلمة عقل، أي عقل البعير وقيده، فإذا كان ذلك ما قام به عمرو بن العاص من خداع أبي موسى الأشعري، وهما الصحابيان الجليلان، فهذا هو عالم السياسة، فكيف نثق في سياسيي اليوم من سقط المتاع!؟

في منتصف القرن الخامس الهجري سيظهر أبو حامد الغزالي كواحد من أكبر علماء الإسلام في ظل السلاجقة، حيث انضم لحاشية الوزير نظام الملك منذ أن كان عمره 28 سنة، ليجد نفسه لسان حال السلاجقة والمذهب السني في مواجهة المذهب الإسماعيلي بفرعه المتطرف، بقيادة زعيم الحشاشين أبو الحسن الصباح، والفرع المعتدل بقيادة الدولة الفاطمية. وجد الإسماعيلية في فلسفة ابن سينا والفارابي أفضل معين، وتمكن الغزالي من تحويل المعركة بين المعتزلة والأشاعرة إلى معركة بين الأشاعرة والفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة».

ولمواجهة نظام التعليم العرفاني لدى الإسماعيلية، لجأ الغزالي للمنطق منهجا وحيدا لتحصيل العلم. وعلى الرغم من اتهام الغزالي الفلاسفة بالطمع في أموال الإسماعيلية، فإنه نسى أنه الناطق الرسمي للسلاجقة السنة، وأنه المنظر الأيديولوجي لدولتهم. لم تكن المعركة فكرية لوجه المعرفة، وإنما كانت أيديولوجيتين تتصارعان بالسلاح والفكر، مثلما أن المعركة بين الفقهاء والمعتزلة كانت في بدايتها معركة سياسية وأيديولوجية بامتياز. ولم يصبح المعتزلة تيارا فكريا صرفا إلا مع أبي الهذيل العلاف بين القرنين الثاني والثالث الهجريين.

كان الفقهاء يدافعون عن الحكام من أمويين وعباسيين، وفي عهد المأمون أصبح المعتزلة أهل الحظوة عند المأمون، ربما لهذا فضل إخوان الصفا الذين تأثروا بفكر المعتزلة والفلاسفة والباطنية البقاء كجمعية سرية بعيدا عن «ذهب المعز وسيفه».

بعد عشرين سنة من وفاة الغزالي سيولد من يدافع عن الفلسفة بالقرن السادس الهجري في كنف وحظوة الخليفة أبو يعقوب المنصور، ثالث خلفاء الموحدين، وهو ابن رشد، قاضي قرطبة وفيلسوفها الأبرز والملم بالعلوم الشرعية والتطبيقية مثل الطب، الذي رد على الغزالي بكتاب «تهافت التهافت». وباعتباره من أكبر المتخصصين في فلسفة أرسطو، حتى لقبه الغرب بـ«الشارح الأكبر»، أجاد ابن رشد استخدام المنطق والعقل بمفهومه الثاني، أي بتحديد المفاهيم وليس بعقل البعير ومنعه من الحركة.

لا مجال لنقل ما جاء في كتاب الغزالي وكتاب ابن رشد هنا، فهما متاحان، ولكن فقط أود أن أشير إلى أن ابن رشد قال عن التشريح: «من اشتغل بالتشريح ازداد إيمانا بالله»، وهو عكس رأي مفتي السعودية السابق الشيخ عبد العزيز بن باز في التشريح، حيث أفتى ابن باز بتحريم تشريح الميت المسلم «كسر عظمه ميتا ككسره حيا»، وسمح بتشريح جثة الميت في حالات التحقيق الجنائي. أما التشريح في مجال التعليم فمحرم وفقا لابن باز، الذي أجاز استخدام جثة غير المسلم لهذا الغرض باعتبارها جثة كافر، لأنه غير معصوم.

وهذا عقل ليس فقط للبعير، وإنما للعقل والمنطق والفطرة الإنسانية. قبل هذه الفتوى كنت أعتقد أن المقصود بكلمة «المعصومين» هم الأئمة من آل البيت لدى الشيعة، ولكن الشيخ ابن باز عصم جميع المسلمين بشرط أن يكونوا ميتين، بما في ذلك المجرمون.