Atwasat

الاستشراق: تراث الشرق في فكر الغرب! (4-5)

سالم الهنداوي الخميس 30 مايو 2024, 06:30 مساء
سالم الهنداوي

تنامت ظاهرة الاستشراق حتى أصبحت «حركة فكرية» قائمة بذاتها على أساس البحث في ثقافات الشرق ما أمكن توظيف مبتغاها في خدمة مصالح غربية وتنظيمات عميقة مثل «الماسونية» التي تعتمد على مكوّنات ثقافات الشعوب التاريخية بعقائدها الدينية، وكانت «اليهودية» البؤرة المحمية في مجتمعات شرق المتوسّط لتمكين «الصهيونية» من احتلال الأرض العربية الفلسطينية.

يُعد «برنارد لويس» أنموذجاً للمستشرقين اليهود المؤثّرين في الغرب، وتبرز أهمية برنارد لويس في قربه من دوائر صناعة القرار داخل الإدارة الأميركية ولصوته المسموع في وسائل «الميديا» العالمية، خاصة بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001، وهو واحد ممّن يُعتد بتصوّراتهم وأفكارهم عن «الإسلام» لدى صُنّاع القرار ومخططي الاستراتيجيات الغربية، وواحدٌ من كبار المستشرقين الذين يصنَّفون في الغرب بوصفهم «خبراء» فى شؤون الإسلام والمسلمين. وهو الذي طرح شعار صراع الحضارات قبل «صمويل هنتنغتون»، وهو الذي أقنع «بوش الابن» بأن سبب كراهية العرب لأميركا ليس بسبب موقفها المساند لإسرائيل وإنما هو شعور المسلمين بالحقد على الحضارة الغربية (ممثلة بالولايات المتّحدة) وهو المروّج لفكرة أسلحة الدمار الشامل في العراق، وكذلك لفكرة علاقة «صدام حسين» بتنظيم «القاعدة»، وهو الداعي إلى الحرب على «أفغانستان والعراق» باعتباره المستشار الأول في البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، وقد وجّه تخصُّصه في التاريخ الإسلامي لخدمة الدراسات اليهودية والبحث في المسائل التي تخصّ اليهود في العالم الإسلامي.. وكان «برنارد لويس» أصدر العديد من الدراسات التي ترصد أوضاع اليهود ومنها كتابه «اليهود في الإسلام» الذي حاول فيه أن يجعل لليهود دوراً في بناء الحضارة الإسلامية فضلاً عن خلق دورٍ لهم في بناء الدين الإسلامي نفسه. ومن دراساته كذلك دراسة الوثائق التي تخصّ الوجود اليهودي في الدولة العثمانية وفي فلسطين بالذات!

دخل اليهود إلى ساحة الاستشراق الغربي بوصفهم أوروبيين لا يهودا، لذلك غاب عن الدارسين للاستشراق تحديد الدور اليهودي بدقة، فـ«جولد زيهر» المجري، زعيم علماء الإسلاميّات في أوروبا، و«سولومون منك» الفرنسي، و«برنارد لويس» الأميركي، قد لا يعرف الكثيرون أنهم يهود، وقد التقت أهدافهم كيهود مع أهداف الاستشراق وبخاصة الدينية منها، ولا ننكر أمثال هؤلاء المستشرقين الذين كانوا أقدر من غيرهم على خوض غمار الدراسات الاستشراقية الإسلامية والعربية، فهم أكثر فهماً لهذه الموضوعات، وذلك لتقارب اللغة العربية مع لغة ديانتهم العبرية، ولاشتراك اليهود مع المسلمين والعرب في تاريخ طويل حافل بالأحداث.

يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري الأسبق في بحث له عن الاستشراق: «لم يرد اليهود أن يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين يهودا حتى لا يعزلوا أنفسهم، وبالتالي يقل أثرهم وتأثيرهم، ولهذا عملوا بوصفهم مستشرقين أوروبيين، وبذلك كسبوا مرّتين: كسبوا أولاً فرض أنفسهم على الحركة الاستشراقية كلها، وكسبوا ثانية تحقيق أهدافهم في النيل من الإسلام، وهي أهداف تلتقي مع أهداف غالبية النصارى».. ودأب اليهود في معظم الأحيان على ستر يهوديتهم حينما يقومون بحملات الغزو الخبيث للأديان، إذ ينادون بإلغاء الأديان كلها، ويهاجمونها جميعاً، ويضعون وكلاءهم وحرّاسهم في شتى ميادين العمل الإنسانية، ويحاولون ألّا تفلت ثغرة واحدة منهم دون أن يرسلوا فيها بعض وكلائهم أو أجرائهم أو يشتروا من الأفراد بعض ضعاف الإرادة، أو بعض ضعاف العقل مهما كلفهم الثمن، وغالباً ما يكون الثمن زهيداً.

من أسباب إقبال اليهود على الاستشراق يقول المفكِّر الإسلامي المصري الدكتور محمد البهي: «هناك ملاحظة لبعض الباحثين تتعلّق بالمستشرقين اليهود خاصة، فالظاهر أن هؤلاء أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية، وهي محاولة إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمه بإثبات فضل اليهودية على الإسلام بادّعاء أن اليهودية، في نظرهم، هي مصدر الإسلام الأول، ولأسباب سياسية تتّصل بخدمة الصهيونية: فكرة أولاً ثم دولة ثانياً»، ويضيف الدكتور البهي: «هذه وجهة نظر ربما لا تجد مرجعاً مكتوباً يؤيدها، غير أن الظروف العامّة، والظواهر المترادفة في كتابات هؤلاء المستشرقين تعزِّز وجهة النظر هذه، وتخلع عليها بعض خصائص الاستنتاج العلمي».

وعن بدايات الاستشراق اليهودي «الإسرائيلي» تشير دراسة حديثة أعدتها الباحثة المصرية «سمية حسن» إلى البدايات الفعلية للدور الصهيوني في حركة الاستشراق العالمية، مشيرة إلى الكثير من الأدبيات التي تُقدِّم اليهود على أنهم مؤسِّسو تلك الحركة في العالم، والدراسات الشرقية على وجه الخصوص، انطلاقاً من كون اللغة العبرية قريبة الشبه باللغة العربية، وهو ما جعلهم يلعبون دور الناقل حسب زعمهم للثقافة العربية إلى الغرب، بما ينطوي عليه النقل من مغالطات شديدة تضرب في صميم العقيدة والفكر الإسلامييْن. ويَعتبر متخصِّصون في هذا الشأن أن التطوُّر الحقيقي للدور اليهودي في الحركة الاستشراقية وبداية تبلوره كمدرسة قائمة بذاتها، بدأ مع بداية الدعوة لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، إذ كانت مساهمات اليهود في جميع مجالات الاستشراق في تلك الفترة مفعمة بالنشاط والفاعلية، وفي وقت كانت فلسطين ولا تزال موضع اهتمام خاص من قبل المستشرق الأوروبي لارتباطها بالكتاب المقدّس، لذا فقد حظيت بدراسات مختلفة كانت في حقيقتها عوناً للاستشراق «الصهيوني» الذي مهّد لقيام «إسرائيل» ببناء جبهة للصراع الثقافي قبيل الصدام العسكري مع العرب.

وتكمن خطورة الدور اليهودي في الاستشراق في أنهم هُم الذين أمدّوا هذه الحركة والرأي العام الغربي بعناصر الصورة المشوّهة للإسلام، وبآرائهم المغرضة عن الأدب العربي، كما أن الدعم الاستشراقي لليهود لم يتوقف في شتى المجالات حتى تمكّن الصهاينة من احتلال فلسطين، فالأمر لم يقتصر على الإسهام الاستشراقي الأوروبي في صياغة الفكرة الصهيونية واحتضانها، بل تعدّاه إلى النطاق العملي، وقد تمثّل هذا الجانب في حملة «نابليون» العام 1798، وجمعية فلسطين التي أُنشئت في لندن العام 1801، وقامت بدراسات مهمّة عن فلسطين كانت عوناً لتحقيق الهدف الصهيوني، وكذلك صندوق استكشاف فلسطين الذي تأسس في بريطانيا العام 1865.. وكان من أبرز المستشرقين اليهود في الغرب: جولد زيهر، إبراهام جايجر، برنارد لويس، سولومون منك، يعقوب بارت، ريتشارد جوتهيل، دافيد بانت، باول كراوس.

يشير الباحث المصري المتخصّص في اللغة العبرية الدكتور محمد جلاء إدريس في مقال له بكتابه «إسرائيليات»، عن عناية الكيان الإسرائيلي بالمسألة الاستشراقية، موضحاً أن المؤسسات العسكرية والسياسية في إسرائيل تستفيد فائدة تامة من نتائج الدراسات الاستشراقية، بل إن ساسة إسرائيل وقادتها العسكريين هُم من روّاد الحركة الاستشراقية داخل إسرائيل، وقد رصد الدكتور إدريس عدداً من المؤسّسات الاستشراقية العاملة في الداخل الإسرائيلي، وهي:

- الجامعة العبرية في القدس: وتضم مراكز عديدة منها مؤسسات الأبحاث الشرقية، ومعهد «بن تسفي»، ومعهد «ترومان» لأبحاث السلام، ومعهد «مارتن بوير» للتقارب العربي- اليهودي، ومؤسسة أبحاث الشرق الأوسط.
- جامعة تل أبيب: وتضم معهد «شلواح» للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية، ومركز «يافيه» للدراسات الاستشراقية.
- جامعة حيفا: وتضم معهد الدراسات الشرق أوسطية.
.. هذا بداخل «الكيان الصهيوني» الذي بدوره يتغذّى على التحليلات الاستراتيجية والإفادات الواردة تباعاً من الجامعات ومعاهد الاستشراق حول العالم.

بمرور أكثر من سبعة عقود على احتلال فلسطين، يكون اليهود «الصهاينة» قد حصدوا ما زرعوه في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالتراث والثروات وسط ثراءٍ معرفي ثقافي وعلمي هائل كان الهدف لاحتواء ما فيه، بعوامل وجوده على مائدة الأطماع الغربية، ما جعل من التفكير العربي الجمعي مكشوفاً أمام مخطّطات الغرب بالهيمنة على اقتصادات الشرق ومستقبله الاجتماعي والاقتصادي الذي تهاوى سياسياً منذ مطلع الألفية الثالثة، وليكون في صميم حركة التغيير الربيعي مطلع العام 2011 وتداعياته وأخطاره الجسيمة على مستقبل المنطقة.. وهنا يمكننا أن نسأل ببساطة عن المستفيد من هذه الفوضى الخلّاقة!