برعاية دول غربية تجرى مساعٍ لإقرار ميزانية مالية موحدة للحكومتين كحل استثنائي يضع حداً للخلاف بين الحكومتين المنقسمتين غرباً وشرقاً، بشأن توزيع الثروة في البلاد، كانعكاس فشل التوصل إلى سلطة تنفيذية موحدة في القريب العاجل، ما دفع إلى تبني هذا الخيار الذي لا يُرضي أطرافاً ترى أنه يكرّس حالة الانقسام القائمة.

وبدأت ملامح خطة مالية في التشكل للتخفيف من أزمة اقتصادية يعاني منها المواطن الليبي في الأساس، جراء ازدواجية تعيشها أغلب مؤسسات الدولة في ظل ضبابية معايير الصرف لدى المسؤولين الليبيين والفساد المستشري في عدة قطاعات، بسبب غياب ميزانية إنفاق واضحة، منذ رفض مجلس النواب المصادقة عليها قبل أكثر من سنتين، ودخول المصرف المركزي كطرف في الخلاف مع حكومة «الوحدة الوطنية الموقتة» بوصفها الحكومة المعترف بها دولياً.

الميزانية الموحدة قبل تشكيل الحكومة
وكمن يضع العربة قبل الحصان مثلما يرى البعض، باتت جهود الأطراف الدولية في الآونة الأخيرة منصبّة على ضمان بناء تفاهمات لإقرار البرلمان ميزانية موحدة، قبل التوجه نحو تشكيل حكومة واحدة، انطلاقاً من كون الحل الأمثل للأزمة ينطلق من التوزيع العادل للثروات في ليبيا، وفق ما تراه أطراف عديدة داخل البلاد وخارجها.

وينتظر في هذا الاتجاه عقد اجتماع لمجموعة العمل الاقتصادية المنبثقة عن لجنة المتابعة الدولية لمخرجات مؤتمر برلين، والتي تضم في عضويتها الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومصر، إلى جانب الأمم المتحدة، والذي سيناقش سبل مساعدة الأطراف الليبية على التوافق حول ميزانية موحدة للدولة، وقد استبقه سفراء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المعتمدون لدى ليبيا لدى اجتماعهم في طرابلس خلال اليومين الماضيين بالتحذير من مخاطر الفساد المالي في ليبيا، وتأثيره على زعزعة الاستقرار في منطقتي البحر المتوسط والساحل الأفريقي، مشددين على ضرورة إيجاد آلية وطنية لمكافحته.

تحذير أوروبي من مخاطر الفساد المالي في ليبيا
وجاء تحذير السفراء الأوروبيين خلال اجتماعهم مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بمقر المجلس في طرابلس مساء الأربعاء، لبحث مستجدات الأوضاع السياسية التي تشهدها الساحة الليبية، حسب المكتب الإعلامي لرئيس المجلس الرئاسي. وبجانب قضايا الانتخابات وطرد المرتزقة والهجرة والمصالحة الوطنية، أكد السفراء خلال اللقاء ضرورة «العمل على إيجاد آلية وطنية لتوزيع الميزانية والموارد بشكل شفاف وعادل».

وأكد الاتحاد الأوروبي في بيانه استعداد الاتحاد للمساعدة بشأن الميزانية الموحدة «لتشجيع إحياء مجموعة العمل الاقتصادية لعملية برلين مع الرؤساء المشاركين الآخرين، وتشجيع جميع المؤسسات المعنية على العمل بشكل وثيق مع المجموعة في الأشهر المقبلة».
ويأتي الاجتماع بعد أيام من لقاء المبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند مع مسؤولي المؤسسات الرئيسية في طرابلس وبنغازي؛ حيث جرت مناقشة الحاجة الملحة للتوافق حول آلية موحدة لعمليات الإنفاق الحكومي.

- للاطلاع على العدد «449» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

إعادة إحياء اللجنة المالية العليا
وفي ظل استمرار فشل المشاريع البديلة للجنة المالية العليا بعد تجميد عملها لأشهر، أعلن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، «التمسك بالسيادة الليبية في إدارة وطنية مشتركة للموارد المالية والطبيعية وتحديد أولويات الإنفاق العام»، قائلاً «سنطرح أفكاراً جديدة للعام 2024»، واعتبر المنفي في تغريدة عبر حسابه على منصة «إكس» أن «فشل المشاريع البديلة للجنة المالية العليا انعكس سلباً على الدولة وأداء مؤسساتها وهيبتها».

ويعود تشكيل اللجنة المالية العليا العام الماضي إلى محاولة تحديد أوجه الإنفاق العام، ومتابعة الترتيبات المالية التي لم تسفر عن إجراءات ملموسة على الأرض، حتى أصدرت محكمة بنغازي الابتدائية حكماً ببطلان تشكيلها لعدم الاختصاص.

وغابت تفاصيل طبيعة الأفكار الجديدة المقرر استعراضها، فقد جدد المنفي خلال الأشهر الماضية الحديث عن تفعيل اللجنة المالية العليا للقيام بمهامها في إدارة الإنفاق الحكومي وفق عدالة التوزيع والاستخدام المناسب للموارد، وأثيرت القضية نفسها وهي مسألة الإنفاق العام، ودور اللجنة المالية العليا خلال لقاءات المجلس الرئاسي مع عدة أطراف من بينهم رئيس حكومة «الوحدة الوطنية الموقتة» عبدالحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة.

وترغب واشنطن في إعادة إحياء اللجنة المالية العليا، لتلعب دوراً أكبر خلال الفترة المقبلة وفق تصريحات سابقة للمبعوث الخاص للرئيس الأميركي السفير ريتشارد نورلاند خلال لقاء مع المنفي.

بصمة أميركية على مساعي إقرار الميزانية الموحدة
وبدت البصمة الأميركية واضحة على المساعي الجارية لإقرار الميزانية الموحدة كأولوية قبل أن يجرى الاتفاق على تشكيل حكومة توافقية، والتي لا يستبعد متابعون للشأن الليبي اعتبارها محاولة من واشنطن لاستقطاب مراكز صنع القرار الليبي، وقطع الطريق على التواجد الروسي المتنامي، آخذين في الاعتبار إصدار «الكونغرس» في 27 مايو الماضي، النسخة المعدلة من قانون دعم الاستقرار في ليبيا.
ولهذا الغرض تولى الجانب الأميركي من خلال وكيل وزارة الخزانة منتصف الشهر الجاري مهمة الإشراف على اجتماع موسع في تونس شارك فيه محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، ورئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك، وأعضاء من اللجنة المالية بمجلس النواب، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة. وسجل انسحاب وفد حكومة الدبيبة من اجتماع تونس الاقتصادي الذي ضم أيضاً ممثلين عن الحكومة المكلفة من مجلس النواب.

واتفق محافظ المصرف المركزي ونائبه مرعي البرعصي في وقت سابق على إعداد ميزانية موحدة للبلاد للمرة الأولى منذ 4 سنوات، وكما هو متفق عليه يجرى اعتماد الميزانية من مجلس النواب، الذي احتفل بالذكرى العاشرة على تشكيله، الأربعاء، بعد إبداء الأخير ملاحظاته عليها؛ بحيث تشرف على صرفها حكومة واحدة.

وتبقى فوضى الإنفاق العام جراء حالة الانقسام الحكومي القائمة، وفشل أطراف الأزمة في الوصول إلى منجز اعتماد ميزانية موحدة، عاملاً رئيسياً في استمرار تعقيد الأزمة الشاملة في البلاد، بما يزيد من استشراء الفساد، ويضاعف من أزمات المواطن المعيشية، كغياب السيولة، وارتفاع الأسعار، مع تأخر صرف المرتبات لشهور، وربما لسنوات.