Atwasat

الاستشراق: تراث الشرق في فكر الغرب! (3-5)

سالم الهنداوي الخميس 23 مايو 2024, 05:01 مساء
سالم الهنداوي

في وقت اشتغال الغرب على الاستشراق، كان العرب يضعون الفائدة في جرابات المستشرقين، يكرمونهم بالطعام البلدي وبتفاصيل الحياة اليومية لمجتمعاتهم الريفية، وقد تطوّر لهم الأمر إلى تعلُّم اللهجات المحلية الدارجة في الأرياف وسواها حين عرفوا أن اللغة العربية واللهجات العامّة ليست كل شيء لمعرفة كل شيء، وأن مادة التراث الغنيّة لا تتوفّر كثيراً في المُدن العارضة وإنما في أماكن ينابيعها الأصيلة ومصادرها المتنوِّعة في القُرى والأرياف، لذلك ذهبوا إلى دراسة اللهجات المحلّية في مواطنها البكر فتعرّفوا على مفرداتها الخاصّة ودلالاتها الشعبية ليتمكّنوا من سبر أغوار مجتمعاتها الصغيرة بغية اكتناز مضامينها الكبيرة في التاريخ والدين والتراث والعلاقات الثقافية والتجارية والاجتماعية، وقد وقفتُ في القاهرة على هذه الحقيقة شخصياً عام 2006 أثناء إدارتي لمجلة "المجال" للثقافة والعلوم ولقائي بعددٍ منهم كانوا يقيمون بحي "عابدين" ويقصدون الأرياف مستمتعين بترديد بعض التعريفات والأشعار والأمثال الشعبية بمفردات لهجات الدواخل! 

كان دخول "المستشرقون" إلى التراث الإسلامي وإلى القرآن بصفة خاصة هو المعجم، فقد كان رفيقهم في رحلة البحث في التراث العربي الإسلامي، ومنهم من فسّر القرآن انطلاقاً من معجم بسيط كان يملكه أمثال الألماني "رودي بارت" وقد ذهب الأمر ببعض المستشرقين أمثال المغامر الإيطالي "جاكومو كازانوفا" إلى الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بعملية جمع القرآن قيد حياته لأنه كان يتوقّع قرب نهاية العالم نظراً لوجود الآية الكريمة (اقتربت الساعة وانشق القمر).. هذا التفسير الضيِّق لبعض الأمور جعل بعض المستشرقين يتّهمون من طرف المفكِّرين الإسلاميين بالافتراء على الدين الإسلامي والأوهام الواهية في تفسير القرآن الكريم، وبالتالي بدا الشك في حسن نيّتهم وبراءتهم العلمية. وبحسب الباحث "عبدالقادر الطرنيشي" في قراءته لكِتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، فإن الأوهام التي وقع فيها بعض المستشرقين أيضاً هي ادّعاء المستشرق البريطاني "رونالد فيكتور بودلي" بأن "زيد بن ثابت" عندما كُلِّف من طرف "أبي بكر الصديق" بجمع القرآن في مصحف واحد كان يخرج الرقاع من الصندوق كيفما اتفق، ثم يكتب الوحي دون النظر إلى الترتيب الزمني، وقد ردّ الاستاذ "محمد خروبات" على هذا المستشرق بقوله: "إن ما يسترعي الانتباه هو غياب طرق البحث العلمي وقواعد المتابعة الدقيقة، إن الصندوق الذي كُتب له أن يحضر هنا هو صندوق "بودلي" صندوق الإنشاء والكتابة التي يدخل فيها الوصف الاعتباطي مع الخيال غير المطابق للواقع"!

يقع الباحث الغربي المهتم بالمجال الإسلامي في بعض الأخطاء بسبب عدم فهم السند، فعلم الحديث مثلاً قد حصّنه علماء الحديث بالسند والضبط والعدالة وعلم الجرح والتعديل، ولولا هذه العلوم لكثر القيل والقال في هذا الباب.. وقد صدق العالِم الإسلامي "عبد الله بن المُبارك" حين قال: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" والمستشرقون لما وجدوا الحديث قد جُمع في مجاميع ومسانيد، ووجدوا القرآن قد جُمع بين دفتي المصحف، مالوا إلى التاريخ، وفي التاريخ تكثر التفاصيل، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلاً لمّا وجدوا أن السيرة النبوية لم تعطِ الاهتمام الكبير لفترة ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم استغلوا هذا الفراغ لزيادة بعض الأحداث غير الصحيحة بالمرة كقول بعضهم أن النبي محمد استمدَّ تعاليم الدين الإسلامي من اليهودية عندما كان يقبل على راهب يهودي قبل البعثة!

برأي "ادوارد سعيد" أنه لم تكن اللغة المستعملة في المعالجة مستقلة عن الميولات والمصالح والأهواء والأحقاد، بل سُخِّرت لخدمة مصالح الاستشراق وأهدافه، ومن هذه الأهداف: نسف المستشرق "ثيودور نولدكه" لربانية القرآن وقدسيته وإرجاعها إلى الطبيعة البشرية. من جهة أخرى يظن البعض أن محاولات المستشرقين ترجمة القرآن هي بهدف علمي نبيل، ولكن إذا نظرنا إلى المنسوبين إلى هذا التوجُّه سنلحظ أن هدفهم هو مزاحمة أي ترجمة حقيقية للقرآن الكريم بترجمة تلحق بمعاني القرآن الكريم تحريفاً، وتجعل كل من قرأ الترجمة المُحرّفة يعتقد أن ما فيها هو ما في قرآن المسلمين، والأمثلة الشاهدة على ذلك كثيرة، فهذا المستشرق الفرنسي "ريجي بلاشير" مثلاً بيّن في مقدمة كتابه عن القرآن الكريم كيف ان ترجمته كانت بدافع الحقد الصليبي المعادي للإسلام وليست لهدف علمي كما يدّعي البعض. وهذا رئيس وزراء بريطانيا الأسبق "وليم جلادستون" في تصريح مثير أمام مجلس اللوردات البريطاني حين أمسك المصحف الشريف بيده وقال: "ما دام هذا الكِتاب على الأرض، فلا سبيل لنا إلى إخضاع المسلمين".. وهذا ما قصده "ادوارد سعيد" بقوله أن الاستشراق سياسة، و معرفة لها منهج معيّن لا مكان فيه للعمل الفردي. إنه عمل جماعي شارك فيه كل مكوِّنات المجتمع الغربي: المفكِّر والمثقف باسم المناهج العلمية، الراهب والقسّيس ورجل الدين والسياسي المحنّك.. ويتساءل الباحث "عبد القادر الطرنيشي": هل يمكن اعتبار الاستشراق حملة صليبية جديدة، أو دعوة بابوية تحاول طمس معالم العقيدة الإسلامية؟ أم هي ردّة فعل تلتجيء إلى القوة لردّ الاعتبار لنفسها؟.. إنها تعود الى الماضي التاريخي لتؤكد استمرار الأحداث.

لقد كان الغرب دائماً بالمرصاد لنبوغات الشرق المعرفية التي يجدر بنا القول بأنها ما فتحت أبواب المعرفة على الغرب، ولم تكن الحروب الصليبية التي اجتاحت كيانات الشرق الثقافية إلّا الهدف الأساس للهيمنة على فعل نبوغات الشرق لكي لا يخضع الغرب لثقافة الشرق ويتأثر بتراثه، فكان العمل على مأسسة علم الاستشراق مدخلاً لتعميمه بين الجامعات والمعاهد، واعتماده علماً إنسانياً حضارياً، يمكن من خلاله البحث في المزيد من قيم وكنوز الشرق، وجذب العقل العربي للدراسة في الغرب والاستفادة من تكوينه الثقافي.