Atwasat

عيون التاباويات الحزينة

منصور بوشناف الخميس 18 أبريل 2024, 05:20 مساء
منصور بوشناف

في مرزق «عاصمة الجنوب الليبي» لعقود طويلة وإحدى عواصم تجارة الترانزيت قديما، وغير بعيد عن قلعتها المهيبة وغير بعيد أيضا عن قوس حديث كتب عليه «ساحة الحرية» ومركز بوليس وبعض المتاجر الصغيرة، وعند مدخل مسجدها العتيق حيث يرقد حاكم تركي ظريف كتب على قبره «آه من الموت».

التركي الظريف لا بد أنه لم يكن ظريفا وهو يحكم مرزق، فقد كان يسكن القلعة التي تراقب مداخل المدينة من كل الجهات وتتربص بكل من في داخلها من السكان.

كنت قد دخلتها في أحد أيام تسعينيات القرن الماضي مساء قادما من غات والأكاكوس ورأسي يعج بقوافل الشرق والغرب والشمال والجنوب وحكايات التجار والدعاة والمستكشفين وسلاطين وأمراء حكموها والأقرب إلى سمعي وروحي في تلك اللحظات كان «فن المرزكاوي» أعني بصمة مرزق المهمة في تاريخ ليبيا الثقافي ونمو هويتها الجامعة.

كنت مستفزا بالكثير من الكلام عن فن المرزكاوي إذ ذهب البعض إلى أنه فن «مورسكي» خالص جاء من الأندلس والمغرب لينتشر من مرزق إلى بنغازي ثم إلى أرجاء ليبيا وكل ذلك يضمر تلك العدمية التي امتاز بها الليبيون وهم يتفحصون مقتنياتهم التاريخية والثقافية ولا يرون أبعد من «الهنا والآن».

ذلك الكلام يفترض أن مرزق، وكل ليبيا، كانت فارغة وكان إنسانها متسمرا لا يمارس أي شيء، كأنه لم يكن يصطاد ولا يزرع ولا يبيع ولا يشتري ولا يتناسل ولا يتعبد والأهم هنا لم يكن يغني ولا يرقص، ببساطه كان محنطا ينتظر قدوم أولئك المورسكيين كي يعلموه الغناء وربما الحب وحتى التناسل..

نظرية الليبيين الراسخة لقرون بفراغ هذه الجغرافيا بانتظار الفينيقيين والرومان والوندال والعرب ليعمروها ويعلموا إنسانها التدين والغناء والرقص والتجارة والزراعة والسباحة وركوب الخيل كان شيئا مقززا بالنسبة لي وبعد تجوالي الطويل في ليبيا اكتشفت أنه يعبر عن جهل واستلاب مرضي في الآخر بعيدا عن التثاقف والتفاعل الحضاري بين الشعوب عبر التاريخ.

كانت قوافل التجار القادمة إلى مرزق، ومنذ قرون بعيدة وقبل سقوط الأندلس، تحمل، كما ظلت دائما، البضائع وأيضا الفنون والمعتقدات وكان لا يسمح لتلك القوافل بالدخول إلى مرزق إلا بعد إجراءات وفق أعراف وقوانين سنها حكام وشيوخ مرزق مثل غيرهم من حكام وشيوخ محطات القوافل التي كانت مرزق من أهمها، أثناء تلك الأيام والليالي التي تأخذها تلك الإجراءات كان تجار وخدم تلك القوافل يستريحون وأيضا يحتفلون، يغنون ويرقصون، كل قافلة وفنون بلادها، مما جعل من محطة ما قبل الدخول تلك ملتقى لفنون وإيقاعات الجنوب والشمال والشرق والغرب وكل ذلك يدخل بسلاسة ويسر إلى وجدان مرزق ويمتزج بفنها الخاص، فنها المرزكاوي الأصيل لتعيد مرزق صياغته وفق إيقاعاتها ومقاماتها الخاصة، بالضبط كما ستفعل بنغازي بالمرزكاوي فيما بعد.

في مرزق، حيث دخلت لأول مرة في حياتي لطيف ليبي آخر لم أكن أعرفه مباشرة من قبل، اقتربت من «التبو» ورأيت في عيونهم تلك الريبة والشك لكوني من الشمال وغريب وربما أجنبي، رغم سحنتي التي لا تختلف عن سحنات غالبهم، أعني النحالة والسمرة الباهتة وسيقان الإثيوبيين أسلافهم، كما وصفهم هيرودوت.

كان تبو مرزق متوجسين في تلك الأثناء، يخشون الشمال والحكومة ويخشون التعريب أو الترحيل أو الزج بهم في صراع ضد أبناء جلدتهم في تشاد، كانوا يشاركون طوارق غات وأوباري الهواجس نفسها، بل إن هواجسهم أكبر من الطوارق.

في ليالي المرزكاوي التي حضرت في مرزق لم يكن للتبو وفنونهم حضور في كل ما غنته فرقة مرزق للفنون الشعبية، كانت فنونهم كفنون الطوارق في غدامس منفية خارج أسوار المدينة، ذلك الغياب لم يكن إلا غيابا لفنون البدو الرحل التي ظلت تمثل فنون التبو خاصة، فنون القادرين على العدو السريع، كما يقول هيرودوت منذ خمسة وعشرين قرنا من وصولي إلى مرزق، بالطبع سنجد، لو فتشنا بحثا، بعض عناصر فنون التبو في فن المرزكاوي الذي صاغته مرزق على مهل شديد لقرون طويلة. فلا أشك أبدا في أن تلك العيون، عيون التاباويات اللامعة ذكاء وحزنا، ورشاقة الغزلان التي يتنقلن بها بين السوق والكوخ لم تفعل فعلها في فن المرزكاوي الليبي الشامل للصحراء والبحر والريف والمدينة وحتى البادية رغم التجاهل والنكران الذي أظهره غالبية، إن لم يكن جميع، من درسوا فن المرزكاوي.

فنون «التبو» التي تشع من تلك العيون، عيون التاباويات الحزينة التي ينزفنها نسيجا وغناء ورقصا، تغيب تماما عن فسيفساء فنوننا وآدابنا، لنخسر بغيابها الكثير من ملامحنا وتراثنا وهويتنا المهددة بالنسيان والتلاشي.