Atwasat

احتفال عالمي بالقتيل 101

سالم العوكلي الثلاثاء 02 أبريل 2024, 06:01 مساء
سالم العوكلي

هل يختار الكيان الصهيوني ما يراه ظرفاً تاريخياً مواتياً للشروع، على مرأى العالم، في تنفيذ عقيدته السياسية المؤجلة والمتمثلة في عملية تطهير عرقي بين قتل وتجويع وتهجير، لِما تبقى من الفلسطينيين على أرض فلسطين، دون خوف من التبعات أو العقاب أو حتى الإدانات الجدية؟. وهل ما حدث يوم 7 أكتوبر كان جزءاً من هذا المخطط كي يجد ذريعة للشروع في القتل لكل ما يتحرك فوق أرض غزة دون رادع، ما يطرح بدوره أسئلة شبيهة بما أثيرَ حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي منحت الولايات المتحركة ذريعة لارتكاب مجازر في العراق وأفغانستان؟.

الأسئلة عديدة، والتاريخ الذي نعيشه ونعايشه يومياً أكثر تعقيداً وغموضاً مما نقرأه في كتب التاريخ القديم، بعد أن تحولت ما نسميها ثورة المعلومات إلى حالة تشويش شاملة على الحقيقة، حيث غزارة المعلومات تعني أن لا معلومة، وحيث أصبحت الميديا بكل أدواتها متواطئة عبر تحويلها الجريمة إلى حالة عرض دائم ومخدر من شأنه أن يجرد الضمير من يقظته. كيف اختار الصهاينة وحاضوا جرائمهم في هذا التوقيت الذي يجعل من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، من قتل الأبرياء بعشرات الألوف، وقصف المدارس والمستشفيات ومقرات الأمم المتحدة، وحصار وتجويع الملايين، شأنا قابلاً للجدل والاختلاف فيه؟.

العالم، وفق ما يتوقع محللون ومتابعون، في طريقه إلى إرساء نظام عالمي جديد بعد أن استنفد النظام العالمي الذي تشكل منذ نهاية الحرب الباردة كل طاقاته للاستمرار، وبالتالي عادة ما تتيح المراحل الانتقالية من نظام إلى نظام بديل فرصة لاستثمار ما يرافق هذا الانتقال من ارتباك وتشويش واختلال في القيم، وارتكاب كل ما هو خارج عن القانون أثناءها، خاصةً أن أهم ما صاحب هذا الانتقال ظاهرة انتعاش قوى اليمين العنصري في العالم الغربي، بداية من وصول اليميني ترامب لرئاسة أكبر قوة في العالم، وما صاحبه من ظواهر شعبوية أعادت التصالح بين القوى اليمينية وصناديق الاقتراع.

وخلال هذا الانتعاش تمتع الكيان الصهيوني بدعم لامتناه فترة ترامب التي جعلت من العنصرية وجهة نظر، ومن الجدران الفاصلة خطابها الأساسي، وما ترتب عنه من نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس، ثم زيارة ترامب للقدس وتلاوته هناك تراتيل توراتية وتلمودية تؤكد حق الصهاينة في كل أرض فلسطين، ورغم التراجع الخجول لإدارة بايدن في ما بعد، إلا أن اليمين الصهيوني المتطرف تلقى هذه الجرعة القوية واستغلها إلى أبعد حد، فيما عدوى الشعبوية التي يقودها اليمين المتطرف انتقلت إلى شارع الكيان الصهيوني فتشكلت حكومة ائتلاف بين أكثر التيارات التوراتية تطرفاً وميلاً إلى الإرهاب، لتشرع في مخططها القديم المنطلق من نقاء العرق اليهودي، ومن يهودية إسرائيل كاملة، ومن شعارهم أو عقيدتهم الشهيرة: «الفلسطيني الطيب هو الفلسطيني الميت»

أما على مستوى المحيط العربي نستطيع أن نقول أن مشهداً عربياً مختلفاً بدأ في التبلور منذ غزو الكويت وحروب الخليج المتتابعة وصولاً إلى احتلال العراق، وما اتسمت به تلك السنوات من انقسامات جذرية في مركز القرار العربي وفي الفتاوى وفي مزاج الشارع أيضاً، كما أن مفهوم الخطر في المنطقة انزاح إلى فزاعة أخرى، خصوصا بعد الاحتلال العراقي للكويت. وأفضى هذا المشهد الشاك في كل ثوابته السابقة إلى عمليات تطبيع علنية وسرية مع الكيان الصهيوني باعتباره عدواً للعدو الأول إيران، إضافة إلى تفكك الجيوش العربية المركزية حول فلسطين، وتحولِ العديد منها إلى ميليشيات تتقاسم قوى النفوذ تبعيتها، خاضت حروبا أهلية بدعم من قوى دولية وإقليمية، وأدى انحسار الحس القومي إلى الدرجة التي أصبحت فيها مسألة فلسطين عبئاً على وجدان هذه الأمة، إلى تصدير الحلم العربي صوب مراكز إسلامية أوسع ما زالت تلعب بالورقة الفلسطينية، إيران وتركيا، وانقسام التيارات الدينية الناشطة عربياً بينها، لتصبح دولة ضمن حلف الناتو الداعم بقوة للكيان الصهيوني ملاذاً لجماعات الإسلام السياسي التي انتعشت بعد الربيع العربي، غير أن ما يتكشف يومياً من إجراءات تطبيع على كل الأصعدة، توقيع اتفاقيات شراكة وتبادل تجاري ضخم وتعاون عسكري بين تركيا و (إسرائيل) أحال الحلم التركي إلى كابوس آخر، خصوصاً بعد ما تسرب أخيراً من معلومات عن استمرار هذا التبادل التجاري الضخم حتى أثناء مجزرة غزة، بما فيها ذخائر وأسلحة تصدرها تركيا إلى إسرائيل جعلت الكثير من القوى التركية المدنية تخرج إلى الشارع محتجة.

أما الميليشيات التي سيطرت بعد تقويض عديد الجيوش العربية، تحوَّل بعضها إلى أذرع عسكرية لإيران، وبناء على ما تشكله إيران من قلق للدول الغربية التي تعتبرها الشيطان الأكبر، كان الكيان الصهيوني يستغل تحالفها مع حماس لينقض عليها بدعم من هذه القوى المعادية لإيران، واتخاذ الحرب على المسلحين لارتكاب مخططه الإبادي، والملاحظ أن هذه الأذرع هي التي تتحرك الآن بشبه دعم مسلح مباشر: حزب الله والجماعة الحوثية وبعض الميليشيات التابعة لإيران في العراق، وكلها مظاهر عسكرية مزعجة لبعض النظم العربية التي تتمنى في قرارة نفسها القضاء عليها، وبالتالي فإن النزاع بين الغرب والمشروع الإيراني النووي، ومحاصرة إيران داخل أزماتها الدولية والداخلية، جعلت من الظرف مناسباً لما يفعله الكيان الصهيوني تجاه مقاومة يرى العالم أنها تابعة لما تسميه محور الشر في إيران.

أما ما يخص الشعوب العربية وضميرها ووجدانها، فما حدث في العقود الأخيرة من تحولات سياسية واقتصادية وأمنية أفضى إلى تحييدها عبر ما وُفِّر لبعضها من رفاه وتخمة، أو عبر ما تعيشه أخرى من معاناة ويأس وعدم استقرار، وفي الحالتين نجح تلويث هذا الضمير فيما يخص قضيته المركزية، وانبعاث الشكوك في داخله حيالها وحيال كل الثوابت التي أحاطت بمسألة فلسطين.

ضف إلى كل ذلك، تراجع دور منظمة الأمم المتحدة في العقود الأخيرة، واكتفاءها بمعالجة آثار الحروب بدل إيقافها، وتكرار انتهاك حرمة هذه المؤسسات والموظفين فيها والاكتفاء بالتعبير عن القلق مما شهدته من حروب إبادة في مناطق عدة آخرها ما يحدث الآن في غزة. ولأول مرة منذ تأسيسها تُنكس الأمم المتحدة أعلامها في مقرها بنيويورك حين وصل عدد القتلى من موظفيها في غزة إلى الرقم 101، وتعقد اجتماعاً مصغراً لتأبين ضحاياها، وبدا الأمر وكأنهم قضوا في كارثة طبيعية، زلزال أو إعصار أو انسلاخ طيني أو وباء.

بعد الحرب العالمية الثانية التي فتكت بحوالي 50 مليون نفس بين مدني وعسكري، ولِدت فكرة إنشاء منظمة تضم في عضويتها كل الدول المستقلة في هذا الكوكب، مهمتها الأساسية أن توقف الحروب وترسي السلام، بمعنى أن يكون عملها وقائياً قبل نشوب الحروب وليس بعدها، لأن العمل بعد الحروب والكوارث متكفلة به منظمات أخرى إنسانية.

بعد سنتين فقط من تأسيسها، اقترفت هذه المنظمة جريمتها الأولى حين أصدرت قرار التقسيم الذي يقر بإنشاء دولة دينية على أرض فلسطين بعد تهجير أناس يحملون جنسيات أوروبية وتحويلهم إلى شعب الأمم المتحدة المختار، ومع الزمن حادت تماماً عن أهدافها، وتحولت فيها 180 دولة إلى كومبارس في فيلم ملحمي أبطاله الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومخرجته الولايات المتحدة التي من حقها أن تقول في أي وقت أكشن أو ستوب، ما يجعل البعض يعيدون طرح السؤال القلق حيال نتائج الحرب العالمية الثانية: هل كان سيكون العالم أفضل لو أن دول المحور هي التي انتصرت؟ وهم يطرحونه بألم لأن النظام العالمي الذي أطبق على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، كل ما فعله أن نقل الحروب إلى خارج القارة الأوربية، وأفضى إلى نوع آخر من النازية المبهرجة التي تسببت في إبادة الملايين من البشر الذين قتلوا في حروب قامت في ظل الحرب الباردة، في فيتنام وكوريا وكمبوديا وبورما وأفغانستان والعراق ودول أفريقية عديدة، وما يحدث الآن في فلسطين من إبادة لا تقل وحشية عن مجازر الرايخ النازي المدعومة بقوة من الدول الغربية التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، والتي تقاطرت أموالها وحاملات طائراتها وأسلحتها ومساعداتها الاستخباراتية لحماية الكيان الصهيوني وهو يرتكب أكثر الجرائم فداحة في التاريخ البشري.