Atwasat

منطلقات «الجابري» الفكرية في نقد العقل العربي! (2-8)

سالم الهنداوي الخميس 15 فبراير 2024, 04:58 مساء
سالم الهنداوي

أصبح من الضروري إعادة دراسة مفهوم "سؤال العقل العربي" باعتباره المشروع الفكري الأهم في حياة الأمّة، وهو الذي تأسّس على مفاهيم دُعاة التنوير والحداثة، وكان لنخبة من مثقفينا العرب الجهد الكبير في دراسة وتأويل وفلسفة مناهجه النقدية على مدى عقود من الزمن، كان من أبرزهم المفكِّر المغربي الكبير "محمد عابد الجابري" الذي أصدر عشرات الطروحات الفكرية لدعمه، بدءاً من معطيات "ابن رشد" وانتهاءً بحوارات المشرق والمغرب في الفكر والتراث مع المفكِّرين "حسن حنفي والطيِّب يزيني وزكي نجيب محمود".

الدكتور محمد عابد الجابري (27 ديسمبر 1935 بفكيك، الجهة الشرقية - 3 مايو 2010 في الدار البيضاء) مفكِّر وفيلسوف مغربي كبير له أكثر من 30 مؤلفاً في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها "نقد العقل العربي" الذي تمّت ترجمته إلى عدّة لغات أوروبية وشرقية، وقد كرّمته "اليونسكو" لكونه أحد أكبر المتخصِّصين في "ابن رشد" وتميّزه في الحوار.

ومن أهم أعماله: "العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي- 1971" و"مدخل إلى فلسفة العلوم- 1976"، و"من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية- 1977"، و"نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي- 1980"، و"الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية- 1982"، و"تكوين العقل العربي- 1984" و"بنية العقل العربي- 1986"، و"إشكاليات الفكر المعاصر- 1988"، و"العقل السياسي العربي- 1990"، و"حوار المغرب والمشرق: حوار مع د. حسن حنفي- 1990"، وهو الحوار الأهم في حياة الكاتب الفكرية، وبه اكتمل مشروعه الفكري البنيوي بين مناهج التفكير النقدي في ضفتي الوطن العربي، إضافة إلى دراساته ومناقشاته في التراث والحداثة عام 1991، والمسألة الثقافية عام 1994، والمثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل و نكبة ابن رشد 1995، والدين والدولة وتطبيق الشريعة 1996، والمشروع النهضوي العربي 1996، والديمقراطية وحقوق الإنسان 1997، وقضايا في الفكر المعاصر 1997، والتنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية: العالم العربي نموذجاً، 1997، وحفريات في الذاكرة، من بعيد 1997، وابن رشد: سيرة وفكر 1998.

وإذا كان الجابري غزير الإنتاج فذلك يعود إلى ازدهار المشهد الثقافي العربي وانتشار منابره ومطبوعاته الفكرية وفصلياته الثقافية في تلك المرحلة من التلاقي الفكري بين النُّخب الثقافية الفاعلة التي شهدتها البلاد العربية وتحديداً خلال الثلاثة عقود الأخيرة من القرن العشرين.

وتُعتبر إشكالية العقل في الفكر العربي المعاصر من بين الإشكاليات الكُبرى التي كانت محلّ بحثٍ مستفيض من قِبل مجموعة كبيرة من المفكِّرين المعاصرين الذين أدركوا بأن التقدُّم والخروج من الوضع المتأزِّم الذي يعانيه العرب منذ زمن طويل لا يكون إلّا من خلال تطوير إشكالية العقل والعقلانية، والتوجُّه بالنقد إلى العقل العربي المنتِج للفكر العربي أحد أنواع الفكر التي عرفتها تاريخ الإنسانية، له منظومته وخصوصيته، ارتبط ضمنياً بالوجود العربي وتطوَّر عبر العصور متأثراً بسائر التحوّلات التي عرفها الإنسان في حياته، ويتحدّد بالتراث العربي وما انبثق عنه من منظومات فكرية وعلمية وفلسفية منذ القديم، كما يتحدّد بالتراث العربي متمثلاً في ديوان العرب قبل الإسلام.

أمام كم المراجع القديمة في مسألتي التراث الفكري وتحوّلاته العلمية والفلسفية يُعد "الجابري" بدون منازع من بين الباحثين العرب القلائل الذين كرّسوا حياتهم الفكرية للحفر في قضايا التراث؛ هذا الحفر أوصله إلى ملاحظة مؤداها أن الفكر العربي، من حيث تعامله مع التراث، قد سلك طريقيْن منذ القرن التاسع عشر: الأول الدعوة إلى سحب الماضي وإلغائه وتبنّي الحداثة كما هي، وهناك في المقابل الدعوة إلى فعل عكس ذلك.. وهذان الاتجاهان في رأي "الجابري" قد وصلا إلى طريق مسدود، حيث يقول في هذا الصدد: "إن من غير الممكن صناعة بشر آخر بتراث آخر وبمفاهيم أخرى؛ فأوروبا عندما استفادت من التجربة الحضارية العربية بكل جوانبها، أعادت بناءها من داخل أوروبا نفسها"، ويوضح الأمر قائلا: "لقد استرجعوا "ابن رشد" ليس كما نعرفه نحن، بل كما صنعوه هم. ونفس الشيء يُقال عن "ابن سينا".. ويضيف الجابري: "إن الهُوة التي تفصل الماضي والمستقبل الذي نريده لنعيش عالمنا، لا يمكن أن تُردم إلّا بجسورٍ نبنيها من داخلنا بأدواتٍ جديدة، وبالانفتاح على كل ما يُمكن أن يساعدنا".. وهذا الطرح كان اليقين المعرفي لنُخبة من مفكّرين عرب عاشوا جوهر "السؤال" وكتبوا فيه كثيراً وساجلوا في منابره طويلاً، لكنّ تحدّيات واقع الأنظمة العربية اليوم، بما شهدته من مؤامرات ومتغيّرات جيوسياسية وديمغرافية متلاحقة، كان الليل الذي تحطّمت في ظلامه أحلام هؤلاء المثقفين ورؤاهم المستقبلية لمشروع التنوير العربي بمنطلقاته الفكرية، في التراث والحداثة، المؤسَّسة على سؤال العقل العربي.