Atwasat

لاعقلانية العقلانية الغربية

عبد الكافي المغربي الأحد 11 فبراير 2024, 05:18 مساء
عبد الكافي المغربي

أن يكون لك حق تأسيس دولة منزوعة السلاح، لا يمكن أن تهدد أبدا إسرائيل، يستتبع هذا الاعتراف المشروط بحقك شرطا إعجازيا آخر حمال معان، مفاده بناء مؤسساتك وصياغة مشروعك الوطني بالمصداقية الكاملة. يمكن أن تموت ببطء بينما تتنصل تلك القوة الدولية المراهِقة، غير المسؤولة ومقترفة الجُنح، من مسؤوليتها الأخلاقية بإقرار عقوبات على عصبة من زعماء ميليشيات المستوطنين، الذين يمكنهم في جميع الأحوال التزود للغد من غذاء نباتي أسوة بمليونيرات الغرب وأعلام فنه «الأخلاقيين»، بينما يتوفرون على البروتين من لحم الفلسطيني المنكود العيش. ذلك جميعا لا يراد له أن يبدو من التناقض في شيء، والقوى الغربية بلغت في التبرير السياسي والعذر الأخلاقي وفي إيراد الأسباب المنطقية شأوا بعيدا.

بيد أن الراديكالي الذي يقف خارج الإشباع الأيديولوجي الكابس على أنفاس الأمم الغربية، المثقف اليساري الذي يتضور جوعا من افتقاره للحقيقة الملموسة، بينما تطغى تُخمة البحبوحة على الوجه الفكري لتجربة الفرد فيما هي توحي لوعيه الجثماني بهناء العيش في العصر الحديث، وتسوغ أصالة عقلانيته.

هذا الراديكالي، ولدواعي دهشتنا، يوجه أبصارنا إلى الجهة المقابلة، فهو يكشف لاعقلانية العقلانية الطاغية على المجتمع الغربي، ويبين طبيعتها وتهديدها الوجودي للحرية وللفردية التي لطالما احتفت بها البرجوازية الغربية في تبرير استغلالها الأيديولوجي للطبقة العاملة.

ما أبعدنا هنا عن ثمرة الجهد الموسوعي المنتخِب «تحطيم العقل»، للمجري النزِق «لوكاش»، الكتاب الذي قابل فيه لوكاش ما يعتقد أنها العقلانية السوفيتية الشيوعية، على الرغم من بيروقراطية الدولة، وتسلط أرستقراطية الحزب، والنزعة اللاعقلانية للثقافة الرأسمالية التي تمضي في اندفاع إلى الفاشية القاتلة والمدمرة، فاشية النظام الهتلري.

إن النقد الذي نلخصه هنا لا يستنكف أن يفشي بلاعقلانية النظام السوفيتي، وفي الوقت نفسه الذي يقر فيه بوصول المجتمعات الصناعية المتقدمة إلى تسوية عقلانية يرى أن إمعان هذه التسوية في المنطقية يسبغ عليها طابعها اللاعقلاني المُقبِض والمقيت.

إن الميكنة الآخذة في الصعود منذ الربع الأول من القرن الفائت، ونجاعة الحلول التقنية، والحظوظ الأوسع في العيش الرغد بتكلفة أقل، والاحتفاء بالمنجز التقني في المجتمع الصناعي، والنزعة العقلانية لإنهاء التساؤل الفلسفي بمسوغ يفيد التوصل إلى كل الإجابات، هذه ملامح شمولية فكرية ساعدت المحافظين على التفوق، فيما كانت مجتمعات اشتراكية ديمقراطية في السبعينيات، وتلك روح فاشية صاعدة تهدد جوهر الحريات الغربية في وجودها.

منطقية التسوية الديمقراطية وكفاءة الآلة، ونمو الاقتصاد، وزيادة فرص الأفراد في العيش الحلو المستطاب، هنا تكمن خصائص نظام عقلاني يكاد يخلو من العيوب إذا ما ضربنا صفحا عن الأزمات الاقتصادية التي تكشفت بعد وضع ناقدنا، هربرت ماركوز، مؤلفاته التي سجلت وراءها أبعد أَثَرٍ وأعمق انطباع. بيد أنه من خصائص بلوغ تلك الذروة المتخيلة في المجتمع الصناعي الميسور أن تنشأ ظاهرة كتم وتغييب التناقض، والتقنين والإخفاء القسري للتصورات البديلة، وقمع أصوات عدم الرضا المعدودة بوسائط القوة الناعمة.

في كتابه «العقل والثورة»، انتهى ماركوز إلى أنه بينما لم يكن قط من شك حتى لدى ماركس في أن الثورة البرجوازية على الإقطاع عقلانية في جوهرها، وظفت فلسفة الأنوار في تسديد معاول النقد الهدامة على المؤسسة الكنسية والملكية المطلقة التي مثّل نبلاؤها تهديدا لمصالح التجار وأرباب الصناعات. لكن بينما كانت أيديولوجيا البرجوازية الصناعية في أول أمرها عقلانية ثورية، سرعان ما هددت مكتسباتها العقل، ولمست فيه طبيعة ثورية يَحْسُن ترويضها، بينما عمد القادة الجدد إلى إصلاح ما أفسده الفلاسفة وترميم الدين، ولم تتبدّ نتائج إعادة توجيه طاقات العقل إلى ما يخدم مصالح دولة رأس المال إلا في كتابه «الإنسان ذو البُعد الواحد» One-Dimensional Man، الذي يأتي نشره بعد عقدين كاملين من الكتاب الأول.

إن تتوفر التقنية الحديثة على فرص زيادة الرفاه وتعزيز الإنتاج وضمان الحرية الوحيدة الخليقة بالاسم، الحرية من العمل، التي تهيء فائضا من الوقت للعمال والموظفين يمكن تزجيته في المتع والرياضة أو توطيد الحياة الأسرية، أو في المطالعة، لكن في المقابل هناك إصرار الدولة الرأسمالية على تقييد الإمكانات التقنية التي تكاد تبلغ مبلغ الكمال في العقلانية لوجهٍ صارخ للنزعة الغربية المناوئة للعقل، المسخرة للتقنية لأهداف تدميرية وللاعقلانية السوق التي تُركِع العامل، وتُخضع الأفراد لسلطة الأغنياء الأقوياء.

لكن كلّا، هي ليست تُركِع أو تُرغِم، بل هي تُهَدْهِد الأفراد بحلم الأمان، وتحببهم في الطاعة والالتزام، وتجازيهم على حسن سلوكهم بالسلع ومواد تخلب الألباب.

وفي تسوية الخيال والأدب والفكر والثقافة والسياسة في حقل الفهم ووجهة النظر الحاكمة يكمن الخطر، فعندما تبهت ظاهرة تعدد الأبعاد والرؤى في المجتمع الإنساني، وتكاد تنحسر في سبيل الزوال، عندئذ يتغلب البُعد الواحد، ويمكن للنازية الجديدة أن تتصافح مع النخبة الغربية، صاعدة للقمة على تخمة أممها، بينما صعدت من قبل على حساب آمالها المحطمة وعيشها المنكد.

لا ندرك تماما ما ستصنع الفاشية الغربية إذا اطمأنت لسلطانها. ولكن في أثناء صعودها يمكن لك أن تنتقي من تشكيلين سياسيين دون أن ترجو تبدلا للأحوال الداخلية أو السياسة الخارجية، يمكن أن يستمتع المثقفون بحرية الفكر، لكن التعمية على الأفكار المبشرة بتغييرات جذرية، وإسكات الراديكاليين، وإبعاد العقلانيين عن منابر التأثير سائدة لا ريب، إذ يمكنك الاحتجاج على جرائم بلادك، وأن تشعر بالاشمئزاز من حكومتك، ولكن ستمضي أشهرا تنفذ فيها السياسة القاتلة، وتدفع فيها أموال الضرائب المميتة، ولن يكترث لحسن نيتك أحد: صديقي المواطن الغربي المعارض، وصديقتي اليهودية العلمانية! فهل تلمسان في حضارتكما عقلانية منزهة عن النقائض؟