Atwasat

الحرب في غزة وثوابت استراتيجية الغرب في المنطقة العربية

صالح السنوسي الثلاثاء 19 ديسمبر 2023, 01:39 مساء
صالح السنوسي

كان ولا يزال لفوهة المدفع دور حاسم في بناء سيادة الغرب وفي كسر إرادة الشعوب التي تحاول أن تتصدى لهيمنته ، فمنذ أن اعتمرت أوروبا خوذة الحرب والغزو في بداية القرن التاسع عشر أصبحت الكرة الأرضية بمياهها وأراضيها وشعوبها مباحة لقوة أوروبا، فكان العرب من بين أهم ضحايا هذا المشروع الاستعماري الكوني، فقد سارعت أوروبا باستثمار مكتسبات نهضتها وحداثتها في ضرب منافسيها القدامى لإخضاعهم وفرض هيمنتها عليهم، ومما عمق هذه المأساة هو أن الغزو توج بهزيمة تاريخية ساحقة، حيث استطاعت أوروبا أن تجتاح وطن العرب شرقاً وغرباً واًن تحول ممالكهم وإماراتهم وسلطناتهم إلى محميات ومستعمرات وتحول شعوبهم إلى جماعات من الأهالي المدجنين.

منذ تلك اللحظة تجلت ثلاث وقائع شكلت أسس استراتيجية الغرب وتحكمت في العلاقة بين العرب والغرب طوال القرون اللاحقة وحتى اللحظة الراهنة.
الواقعة الأولى تمثلت في تأسيس استراتيجية خاصة بالمنطقة العربية تقوم على مفهومي القوة والنصر للمحافظة على مكتسبات الهزيمة التاريخية، التي تحققت بالغزو وبالحديد والنار.
الواقعة الثانية وهي لب هذه الاستراتيجية وتتمثل في منع المساس أو تغيير الخرائط الجغرافية والكتل الديمغرافية التي جرى رسمها وتوزيعها على مقاس مصالح أوروبا إلا إذا كان ذلك تغييراً إلى الأسوأ.

الواقعة الثالثة هي ضرب أي محاولة للتمرد لانتزاع نصر مهما كان ضئيلاً على أي من ثوابت هذه الاستراتيجية في المنطقة العربية، لأن ذلك يحمل معنى من معاني التحدي لمفهوم القوة والنصر اللذين يجسدهما الحضور التاريخي للغرب منذ أكثر من قرنين من الزمن في مقابل روح الهزيمة الدائمة والاستسلام والعجز المزمن لدى الطرف العربي. فأي صراع يكون فيه الغرب طرفاً مباشراً أو غير مباشر ضد أي طرف عربي ومهما بلغت محدودية هذا الصراع، لا ينبغي أن ينتهي بغير نتيجة واحدة وهي الهزيمة لهذا الطرف لكي يكون أمثولة لكل من تسول له نفسه التجرؤ على ثوابت استراتيجية الغرب ولكي تبقى روح الهزيمة التاريخية واليأس والعجز المزمن متحكمة في نفوس العرب.

لا شك أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية حماس في السابع من أكتوبر ضد المعسكرات الإسرائيلية وبعض مستوطنات ما يسمى بغلاف غزة يعد تمرداً يحمل صيغة من صيغ التحدي للثابت الثالث في استراتيجية الغرب في المنطقة العربية، فإسرائيل تعد أقوى أدوات هذه الاستراتيجية التي ورثتها الولايات المتحدة الأميركية عن أوروبا في الشرق الأوسط وبالتالي فإن تحقيق أي نوع من الانتصار في معركة ضد إسرائيل مهما كانت محدودة في المكان والزمان، لا يعد عاراً يلحق بهيبة إسرائيل في المنطقة بل تعد قبل ذلك وبعده تحدياً لاستراتيجية تأسست على مفهومي جبروت القوة ومسلمة النصر الغربيتين في مقابل الهزيمة والعجز العربيين، ولهذا فقد رأينا كيف أخذت الولايات المتحدة الأميركية زمام الأمر بيدها قبل مرور يومين على معركة السابع من أكتوبر، فالمعركة لم تعد معركة إسرائيل التي تقوم بدور وظيفي وزبوني لاستراتيجية الغرب في المنطقة العربية وما جاورها، بل أصبحت معركة التجرؤ على مصالح الولايات المتحدة – كما تراها هي- وكسراً لأحد أهم ثوابت استراتيجية عمرها أكثر من قرنين والتي سبق لها أن تعرضت لمحاولات تحدٍّ كحرب أكتوبر في القرن الماضي والتي بصرف النظر عما دار حولها من تحليلات واختلاف الآراء حولها وما أعقبتها من نتائج، إلا أنها جعلت الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون يصدر أمره إلى البنتاغون في اليوم الثاني أيضاً من بدء المعركة بأن «يرسلوا إلى إسرائيل كل شيء يطير» وذلك حتى لا يتمادى العرب الذين بادروا بالهجوم فيذهبون إلى تحقيق نوع من النصر وهو الأمر الذى تحرمه أحد ثوابت استراتيجية الغرب في المنطقة العربية.

عندما هرع الرئيس الأميركي بايدن إلى إسرائيل قبل مرور ثلاثة أيام على بدء المعركة لم يكن دافعه فقط جولته الانتخابية الثانية والصوت اليهودي ولوبي المال والصناعة والإعلام الصهيوني، بل أيضاً ما كان يدفع إدارة الإمبراطورية الأميركية ويستفزها هو التحدي والشرخ الذى تعرضت له أحد ثوابت استراتيجية تأسست قبل أكثر من قرن على ظهور إسرائيل إلى الوجود كثمرة من ثمار هذه الاستراتيجية ، وهو ما أكده الرئيس الأميركي جو بايدن عندما وصل إسرائيل على عجل وخاطب كل من له آذان تسمع بأنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها.

رغم أن المفاجأة التي صنعتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر كانت نصراً في هجوم خاطف محدود بظروفه ومكانه وليست نصراً في حرب شاملة، إلا أن رمزيتها في زمن الانكسار والاستسلام العربيين كانت كافية لاستنفار معظم قادة الغرب الذين رآهم العالم يتدافعون إلى إسرائيل في مشهد لم يسبق مثيله في تاريخ المنطقة، ولا سيما قادة القوى الاستعمارية العريقة التي صنعت الوقائع وأسست قواعد هذه الاستراتيجية التي ورثتها عنها الولايات المتحدة، وقد بلغت بهم حالة الاستفزاز والاستعجال حتى أن بعضهم مثل رئيس وزراء بريطانيا الذي لم يسعفه الوقت فحجز مقعداً في طائرة عسكرية محملة بالعتاد الحربي الذى ليس له من وجهة سوى غزة وليس له من هدف سوى قتل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم فوق جثثهم.

لا شك أن استنفار معظم هؤلاء الزعماء إن دل على شيء- حسب فهمهم- إنما يدل على أن ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر، يعد أمراً جاداً وخطيراً ليس في ما يتعلق بإسرائيل، بل يتجاوزه إلى المساس بسيادة الغرب المطلقة التي يمثلها الحضور العسكري والسياسي والاقتصادي الأميركي في هذه المنطقة، ولعل حماس عندما قامت بهذا الفعل ضد ثكنات جيش الاحتلال الإسرائيلي ومستوطناته، كانت تتوقع بأن كل ما يترتب على ذلك من أفعال وردود أفعال سيكون محصوراً بينها وبين إسرائيل ولم تدرك أنها تجرأت على أبعد من ذلك، إلا عندما رأت الولايات المتحدة الأميركية وقوى أوروبا الاستعمارية الكبرى ينتفضون بكل جبروتهم ويتداعون إلى جانب إسرائيل ليجعلوا من غزة أمثولة لا يجرؤ من رآها بعد ذلك على التعدي مرة أخرى على خطوط استراتيجية الغرب الحمراء.